هل كان الاحتلال يحلم بأكثر من بيان لمثقفين فلسطينيين؛ يذكر أن فلسطين احتلت عام 1967؟ هذه ليست مزحة سمجة، ولا هذيان من وحي انحطاط الراهن العربي، بل هذا فعلاً ما قفز إلى أبصارنا عند اطّلاعنا على البيان الذي نشرته أول من أمس «مؤسسة محمود درويش» في رام الله، ممهوراً بتواقيع لمثقفين فلسطينيين وعرب.
جاء البيان معنوناً بـ «بيان المثقفين العرب حول القدس»، مستخدماً اللغة السياسية نفسها التي سئمها الجميع. بيان يدين ويستنكر بلغة مراجع السياسة الدولية بدون أي دعوة تحرك أو على الأقل مطلب واحد. وعلى سيرة المطالب وكي نكون أكثر إنصافاً ودقة، فإن البيان «يتطلع أن يقوم المجتمع الدولي بإدانته ورفضه لقرار ترمب».
كان ممكناً للبيان أن لا يسترعي انتباهنا؛ كونه لا يختلف عن الخطاب السياسي المستهلك الذي نسمعه يومياً من الجهات الرسمية هنا وهناك، لكن المفاجئ والفاضح هو إشارته إلى القدس بأنها «جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967». نعم، بالحرف الواحد، هكذا بكل بساطة تجاهل النصّ حقيقة احتلال فلسطين عام 1948 والـ 6 ملايين لاجئ في الشتات والحق الطبيعي لكل الفلسطينيين، ليس فقط بقبوله الرواية الإسرائيلية بل بتبنيها والترويج لها.
تلك الرواية التي اعتمدت الخداع وتزوير التاريخ؛ كأداة رئيسية في آلة بروباغندا الاحتلال. هذا عدا استخدام عبارة «الأراضي الفلسطينية» بدلاً من فلسطين، تلك العبارة التي تستخدمها المؤسسات الدبلوماسية والدولية وكل من يخشى ذكر اسم فلسطين.
البيان بلغته وإنشائه يجعلنا نتساءل فعلاً عن كاتبه: هل هو مثقف أم موظف سلطة؟! لنكتشف بالفعل أن من صاغ البيان هو أحد وزراء السلطة السابقين. قد نفهم هذه الصياغة لو صدرت عن السلطة، لكن الطامة الكبرى تتمثل بلحاق بعض المثقفين لهذا الخطاب المشوه. نتفرج على الأسماء الموقعة. بعضهم لاعبو «بوكر»، يدركون تماماً بأنها لعبة غير عادلة، لكنهم يلعبونها أملاً في كسب شيء (أي شيء) مقابل خسارة كل شيء.
رجالات السلطة لهم «استراتيجياتهم» التي سطلونا بها، لا بأس يفعلون بها ما يشاؤون، لكن كم هو محزن مشاهدة «الاستراتيجيات» إياها تتمدد لتجد لها فروعاً وصدى.
للأسف، سارع عشرات بل مئات المثقفين ـ جزء كبير منهم موضع تقدير واحترام ـ إلى التوقيع على البيان عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولعلّ جزءاً وافراً من الأسماء الموقعة لم يكلف نفسه قراءة البيان بعناية. أحد الموقعين الموثوق بوعيه طالب بسحب اسمه من قائمة الموقعين بعدما اتصلنا به مستفسرين، فأخبرنا أنّه لم يقرأ البيان بعناية، بل وافق سريعاً على التوقيع اعتماداً على عنوانه البديهي.
قد نفترض أن تلك الوقعة مجرّد سهو، وهذا بحد ذاته كارثة من مثقفين يفترض أن يكونوا حصناً منيعاً للوعي. أما إذا كانت الإشارة التي تتبنى رواية الاحتلال وخطاب السلطة، مقصودة، فهم مطالبون الآن بتحديد موقفهم بوضوح. ما هي فلسطين بالنسبة لهم؟ هل هي الـ15 في المئة المتبقية من أرضهم؟
أيّ بيان لا يذكر حقيقة الاحتلال الذي جرى عام 1948 ولا يذكر فلسطين اللاجئين والمهجرين، هو بيان لا يعوّل عليه، وأي خطاب يقبل بإرضاء «المجتمع الدولي» على حساب الشعب والتاريخ، هو خطاب تضليل مرفوض؛ يكرّس مقولة الاحتلال ويضع أصحابه أمام مسؤولياتهم الأخلاقية لا كمثقفين فقط بل كفلسطينيين.
أما دعاة «الاعتدال» و«الأمر الواقع» الذين يعتبرون الحق الفلسطيني مجرد فكرة «رومانسية»، فنطمئنهم. لا نريد أن نثقل عليكم، ولا نريد منكم أن تكونوا مثقف غرامشي العضوي. يكفينا فقط أن تصمتوا كي لا تكونوا زبدة ما يريده الاحتلال.