شبكة قدس الإخبارية

للعام 12.. مبعدو كنيسة المهد يتعطشون لسماع أجراسها

عروبة عثمان

حينما يضطر الفلسطيني لأكل ورق الشجر وإضافة بعض الماء إليه، ليشربه كطبق حساء أكثر مرارة من العلقم ذاته، ويبحث عن كسرة خبز وقطرة ماء ليقوى قلبه على الاستمرار في إظهار حبه لمن مدّه بطعم المقاومة، فاعلم أن أبطال قصتنا هذه المرة هم مبعدو بيت لحم.

جمعتهم كنيسة المهد في الثاني من نيسان عام 2002، فحاصروا حصارهم لا مفر، تحت أزيز الرصاص وعيون القناصة، فكانوا أكثر الناس صدقاً أمام أنفسهم وأمام من تابعوا الشريط الإخباري العاجل على الفضائيات لحظةً بلحظة، ليطمئنوا على المستقبل الذي صنعه هؤلاء النجوم.

لم تكن ليلة 2-4-2002 تشبه أي ليلة تمر على مدينة الحب والسلام، فأجراس كنيسة المهد التي اعتاد الفلسطينيون في بيت لحم على سماعها لتلهبهم مشاعر الاشتياق للصلاة والدعاء، باتت في تلك الليلة تُقرع ليسمع العالم وجع المحاصرين، ويشحذ همته لينقذ قدسية الكنيسة وحياة المحاصرين داخلها، لكن ما حققته تلك الأجراس هو نيل قارعها "سمير سلمان" الشهادة برصاص قناصة غادر!

4254319188

بدأت الحكاية حينما شنَّ الاحتلال الإسرائيلي حربه على بيت لحم بما تسمى عملية "السور الواقي"، فاجتاحها بقوات عسكرية ضخمة ومئات الدبابات وطائرتين مروحيتين، فسارع المقاومون بالردّ على خنق المدينة بإصرارهم على ثخن قارع طبول الحرب بجراح لا يشفى منها أبداً، فلاحقوا العدو في كل زقاق من أزقة المدينة لثماني ساعات تقريبا!

وجد المقاومون أنفسهم بالنهاية ملاحقين ومحاصرين من كل الجهات، ورغم ذلك أعلنوا رفضهم للانسحاب من المعركة التي دخلوها ليتمتعوا بطعم حلاوة النصر الذي يصنعه عتادٌ بسيط، وإصرارٌ عميق على تلقين العدو درساً لا ينساه.

انسداد كل الطرق والشوارع أمامهم أجبرهم على الدخول لكنيسة المهد كمعبرٍ يؤمّن وصولهم لبيت ساحور، ليتمكنوا من توجيه الضربات القاسية والموجعة للمحتل، وما إن أنهوا مهمتهم وحملوا عتادهم وجهزوا أنفسهم للخروج من الكنيسة، حتى اضطرت أعينهم- لا محالة- لإبصار قوات كبيرة من الجيش تطوّق الكنيسة!

لم يكن أمام المقاومين حلٌ سوى الرجوع للكنيسة والتحصن داخلها، ففي تلك الأثناء كانت الكنيسة تحتضن حوالي 200 عنصر من عناصر الأجهزة الأمنية قبل دخول المقاومين إليها، ليسجل التاريخ عدد المحاصرين بـ 250 شخصاً، من بينهم 18 طفلاً لم يتمكنوا من الوصول لمنازلهم، ما اضطرهم للاحتماء بالكنيسة هرباً من الموت المحقق، علّ الاحتلال يتفهم رمزية وقدسية الكنيسة، لكن ظنهم قد خاب مع إعلان أول اسم شهيد سقط داخلها!

حاول العدو آنذاك إقناع المحاصرين بتسليم أنفسهم عبر الاتصال على هواتفهم المحمولة، لكن حلمه تبدد بعدما توحَد موقفُ المحاصرين وأغلقوا هواتفهم بوجهه، ليعاود المحاولة مرة أخرى بطريقة مختلفة تماماً، فأحضر أحبتهم للكنيسة للضغط عليهم ودعوتهم لرفع الرايات البيضاء، لكن الأهالي لم يخذلوا أبناءهم فكان موقفهم صلباً إلى حد كبير، لدرجة أن الاحتلال امتلأ غيظاً منهم.

وفي حديث "شبكة قدس" مع الناطق الرسمي باسم مبعدي بيت لحم في غزة فهمي كنعان، قال كنعان إن الاحتلال استدعى والده لإقناعه بتسليم نفسه عبر مكبرات الصوت، لكن أباه المريض جداً لم يقبل بذلك وأبلغ العدو أن لو ابنه جبان، لما بقي صامداً طيلة هذه الأيام في الكنيسة بلا طعام وشراب وكهرباء!

09

وقرر الاحتلال بعد ذلك الانتقام من والد كنعان وحجزه دون طعام في غرفة ضيقة بالكنيسة ليوم واحد، حتى أُصيب بالإغماء والتعب الشديد، فوالده يعاني من مرض السكري وأمراض أخرى، وما إن فقد الاحتلال أمله منه حتى نقله عبر سيارة الإسعاف إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم!

ويروي كنعان تفاصيل صمودهم الأسطوري لـ 39 يوماً، بنبرة حزن على ما آلت إليه أحوالهم، نظراً لتقصير الجهات الرسمية بحل قضيتهم وإنصافهم بإرجاعهم إلى مسقط رأسهم، مستذكراً خوف وجبن العدو آنذاك من أي جسم متحرك، فكان حين يلمح المحاصرين ينظرون عبر الشبابيك يسارع لقتلهم، ليكتب الله الشهادة للشابين حسن نسمان وخالد صيام، وتبقى جثتهما داخل الكنيسة لـ 20 يوماً، دون أن يتمكنوا من دفنهما وإيصالهما إلى سيارات الإسعاف!

وبعد 5 أيام، اقتحمت قوات التدخل السريع الكنيسة واشتبكت مع المقاومين، ما أسفر عن إصابة وقتل عدد من جنود الاحتلال، بشهادة كنعان الذي أقرّ بنشوب حريق في الغرفة التي تحصن الجنود بها، فغادروها بعد أن فشلوا في تحقيق هدفهم.

ولم ينسَ كنعان وزملاؤه المبعدون موقف رجال الدين المسيحيين، حينما أصروا على البقاء معهم متحملين كل الظروف الصعبة كعدم توفر أبسط الاحتياجات الآدمية في الكنيسة وإطلاق الرصاص عليهم من كل حدب وصوب، فآثروا مناصرة من دقوا أبواب الكنيسة طالبين اللجوء إليها على الرحيل خارجها.

وبعد حوالي 10 أيام من محاصرة الكنيسة، بدأت جولة التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي، فترأس لجنة التفاوض من الجانب الفلسطيني صلاح التعمري، بمشاركة محافظ بيت لحم، وعماد النتشة رئيس الارتباط المدني في المحافظة، فحاول الاحتلال إملاء شروطه، حيث كان أهمها دعوة المقاومين إلى تسليم أنفسهم وطلب قائمة بأسمائهم، ما دعا اللجنة إلى إعلان رفضها التام لهذه الشروط التعسفية.

واكتشف التعمري بعد 20 يوماً أن هناك مفاوضات سرية في القدس المحتلة يقودها محمد رشيد مع الاحتلال دون إخباره عن ذلك، الأمر الذي أثار غضبه ودعاه إلى تقديم استقالته على الفور من طاقم المفاوضين.

وعبّر كنعان لـ "شبكة قدس" عن سخطه على رشيد الذي لم يغتنم فرصة صمود المقاومين داخل الكنيسة لـ 39 يوماً، فاتفق مع العدو على إبعادهم لخارج الضفة دون استشارتهم، مستغرباً تصرفه الدال على ضعفه وإفراطه في التنازل، فكان بإمكانه أن يحرز انتصاراً تاريخياً للمبعدين!

وقابل كنعان وزملاؤه المبعدون قرار الإبعاد بالرفض التام، حتى أقنعهم بعض المشرفين على التفاوض بضرورة الموافقة على الإبعاد لغزة لسنتين فقط كما زعموا حينها، ليعيشوا الصدمة بعد ذلك باكتشافهم أن الاتفاق لم يكن مكتوباً، وقضية إبعادهم باتت مجهولة المصير والسقف الزمني!

ويتوجع حالياً 39 مبعداً، منهم 26 في قطاع غزة و13 في دول أوروبية مختلفة، بعد أن سقط 8 شهداء من أحبتهم داخل الكنيسة، موضحاً كنعان أن كل أبواب الأمل أُغلقت بوجههم لضعف المفاوض الفلسطيني.

ولم يترك الاحتلال المبعدين إلى الدول الأوروبية وشأنهم، بل وزّع عناصرَ من الموساد في هذه الدول لملاحقتهم والتضييق عليهم وتلفيق الاتهامات لهم، من أهمها ادعاء الموساد بقتل المبعدين مستوطناً من أصل أمريكي لإثارة الرأي العام العالمي ضدهم!

وغيّب الموت أجساد آباء وأمهات كثير من المبعدين، دون أن يكحلوا أعينهم برؤيتهم أو تقبيل جباههم والأكفان البيضاء تلفهم، فكنعان لم يرَ والديه منذ عام 2003 بعد أن تمكنا من الدخول لغزة مرةً واحدة فقط، حيث منعهما الاحتلال بعد ذلك من العبور عبر "إيرز" لزيارة ابنهما في غزة، ولم تفكر سلطة رام الله بإبرام اتفاقات مع الاحتلال لمنح أهالي المبعدين تصريحاتٍ لدخول غزة أو السماح لزوجاتهم بزيارة ذويهن في الضفة المحتلة!

qw

ولا تتوقف معاناة المبعدين وعائلاتهم عند هذا الحد، فكنعان اضطر أن يدفع من جيبته الخاصة تكاليف سفر زوجته من الضفة لغزة، مروراً بالأردن، رغم ظروفه المادية الصعبة وإعالته لأسرة من 8 أفراد. ولا يختلف حال المبعدين الآخرين عن حال كنعان، فهم يعيلون حوالي 150 فرداً، غير معتمدين إلا على المرتب الشهري الذي خصصته سلطة رام الله لهم!

ويعيش المبعدون عدم استقرار سياسي أو اجتماعي، فمصيرهم ما يزال مجهولاً بعد تنصل الجهات الرسمية في قطاع غزة والضفة الغربية من تعهداتهم بحل قضيتهم، مستذكراً كنعان وعد رئيس الحكومة الفلسطينية في غزة إسماعيل هنية بإدراج قضيتهم ضمن صفقة الجندي "الإسرائيلي" جلعاد شاليط، ليصابوا بالصدمة بعد ذلك حينما تم إبرام الصفقة دون التطرق لقضيتهم بالمطلق!

وها هو اليوم "يوم المبعد الفلسطيني" يصادف الذكرى الثانية عشرة لإبعادهم، محمّلين سلطة رام الله المسئولية الكبرى عن المرارة التي يتجرعونها كل لحظة بعد أن رحلت أجسادهم لا أرواحهم قسراً عن بيت لحم، وذلك لاتفاقية رشيد المشبوهة التي لم تظهر صيغتها حتى اليوم.

وما يزال المبعدون يرقبون من بعيد لحظة استيقاظهم صباحاً على جرس كنيسة المهد، وسيرهم في كل شارع وزقاق من شوارع وأزقة بيت لحم ليشتموا رائحة جدرانها التي حُرموا منها لسنوات!