غفل زياد دويري صورة رضيع تعطش لحليب أمه، بعد أن أخرجت الطائرات الصهيونية لسان حقدها، فأطلقت حممها على منزل يأويه ووالديه، في الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية بيروت أثناء حرب تموز 2006.
حينها، كان الوالدان حديثا الزواج يلاعبان مولودهما البكر الرضيع "علي"، فيحاولان إضحاكه بكل الطرق ليسجلا في دفتر ذكرياتهم التاريخ الأول لضحكة "علي"، وما إن ظهرت علامات السعادة على وجه "علي"، حتى صفق الوالدان بشكل حار، وأخذ الزوج زوجته في حضن دافئ عميق .كسر هذا الحضن كل المقاييس، فكان آنذاك أطول حضن في التاريخ، لكن موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية لم تعر اهتماماً له.
فكر العدو أنه بإعلان حربه على هذه الفرحة البسيطة ظاهراً العميقة باطناً، سيقتل الحياة وينقل اللبنانيين والفلسطينيين إلى موت معنوي لو لم تلفظ أرواحهم أنفاسها الأخيرة، فأطلق صاروخين تجاه هذه الفرحة، ليسقط بطلاها الأساسيان ويبقى البطل الثالث "علي" يصارع وحده الحياة لينتج حلوها من مرها، ويلقي تحية الوطن والحب والأمل على كل بقعة مكسوّة بالدم ومزيّنة بشجرٍ فلسطيني ينمو بكثافة في شوارع مخيم "نهر البارد" الضيقة.
ما ذكرته سابقاً مشهدٌ واقعيٌّ تكرر كثيراً في المناطق المنكوبة كلبنان وفلسطين، رغم أن خيالي من نسجه هذه المرة، محاولاً الوصول لفحش العدو المتفنن في صناعة الموت، لكنه أخفق في ذلك! مشهدٌ مسحه المخرج اللبناني زياد دويري- المشهور بالتطبيع مع الاحتلال- من ذاكرته الضعيفة جداً، فهي لا تقوى إلا على التفكير بضحايا "عزل" يسقطون في "تل أبيب" بفعل "عملية انتحارية"!
دويري أعلن رفضه التام للغة الخشبية والشعارات الرنانة والأسلوب المباشر في دعم ومناصرة القضية الفلسطينية كما يزعم، لكنه لم يعلن رفضه لـ "تل أبيب" أبداً، فكانت وجهته وقبلته الأولى وحبه الأبدي!
دويري مخرجٌ لم تستقر أفلامه السينمائية في مكان، فتنقّل في صناعة أفلامه ما بين لبنان وفرنسا، وصولاً إلى فلسطين المحتلة التي لم يدخلها وفق هذه المسمى، بل وفق الرواية "الإسرائيلية" باعتبار "تل أبيب" مدينة تحتضن سكانها الأصليين!
لم يكن دويري ليحصل على إذن ٍ بتصوير مشاهد فيلمه "الصدمة" في "تل أبيب"، لو كان مخرجاً منصفاً لشعبه الذي عاش مجازرَ بشعةً كمروحين وقانا، وعريفا وصور، وعيتا الشعب، فبعد أن أثبت دويري حسن سيره وسلوكه للمحتل الغاصب، مكث في "تل أبيب" واستعان بممثلين "إسرائيليين" يجسدون أدواراً عن فلسطينيّ الداخل، بحجة عدم توفر ممثل فلسطيني قادر على أداء الدور والقبول بشروطه!
اكتشف المطبّع، أثناء تواجده في "تل أبيب" أن تصرف "الإسرائيليين" الشاذ والعنيف لا يأتي بفعل الكراهية أو العنصرية فقط، بل أيضاً بداعي الخوف! فهم يخافون من الغول الأكبر "المقاومة" الفلسطينية الإرهابية التي نفذت تطهيراً عرقياً بحقهم، وأرغمتهم قسراً على الرحيل عن أرضهم!
دويري راقب خوفهم، ولم يراقب خوف الطفل الغزي حينما يصر على إشعال النور في غرفته عند النوم، هرباً من عتمة صواريخ الخائفين بنظره! ولم يرَ كذلك خوف الأب الفلسطيني على أبنائه، فيدعوهم للجلوس حوله في صالة المعيشة، لتباغتهم القنابل الفسفورية مرةً واحدة ويدفنون بجوار بعضهم البعض في مقبرةٍ مكتظة بالشهداء!
من الواضح أن دويري أعور، لا يرى إلا بعين واحدة تحمل شهادة ميلاد "إسرائيلية"، فيجمّل صورة اليساري "الإسرائيلي" الذي لم أقتنع يوماً بفكرة دعمه لنا، ما دام باقياً على أرضنا. فإن كان حقاً مخلصاً لقضيتنا، فليثبت صدق نواياه ويرحل فوراً!
ويقول دويري لصحيفة "الحياة" اللندنية: "الناس العاملون في الفنون بإسرائيل يمتلكون فكراً يسارياً ليبرالياً تدعم قضيتنا"، وأنا أوافقك الرأي يا دويري لأن ببساطة قضيتك وقضيتهم تختلف شكلاً ومضموناً عن قضيتنا العادلة. قضيتك يا عزيزي تتلخص في إنسانٍ تفصله سنوات ضوئية عن الإنسانية والوطنية.. إنسان لم يعلُ نجمه إلا بعد أن نال رضا "تل أبيب" التام عنه.
فيلم دويري "الصدمة"، المقتبس من رواية "الهجوم" للكاتب الجزائري ياسمينا خضرا، يتناول قصة طبيب فلسطيني "أيمن الجعفري" يكرّم في "إسرائيل" على مسيرته المهنية، لكن فرحته لم تطل كثيراً بهذا الاحتفاء حين اكتشف أن زوجته المتحررة التي تعيش حياة رغيدة، أقدمت على "عملية انتحارية" في "تل أبيب"!
ورغم أن الفيلم يطرح مجزرة جنين كأحد أسباب هذه العملية، إلا أن خضرا ودويري حاولا المساواة بين شهداء مجزرة جنين وقتلى العملية! وادعى المدعو دويري أن الفيلم لم يكن سياسياً، فلم يتناول قضية الصراع الفلسطيني "الإسرائيلي"، بل كان إنسانياً يتعلق بالحب والخيانة!
أيها المخرج العالمي بعد أن كفرت بفلسطين ولبنان وكل صوت حر في العالم، وجب علينا أن نكفر بك ما دمت مؤمناً بـ "إسرائيل"، فأنت تستحق بجدارة لقب " تل أبيب آيدول"!