بعد كل ما مر من وقت مقيت على الحادثة الأعظم والأسوأ بالنسبة إلي على الأقل, حادثة استشهاد مولانا باسل الأعرج كم أحب أن أدعوه.. لا أتذكر ليلة واحدة مرت دون أن أرى باسل, الخيال الآن عرش يتملكه باسل في خيالي, أما عن المواقع الالكترونية, باستطاعتك تفحص هاتفي المحمول, وحاسوبي, سترى سجلا حافلا بنفس الاسم.. في الليل, تنتهي السيجارة سريعا, وكأني أضخ كما هائلا من الفضول, فضول الدخول في تفاصيل باسل, لن أسميها بمحاولة السير على نفس النهج, لا أظن أن كائنا آخر سوى باسل يستطيع أن يكون باسل, لا أظن أنه وبالحالة الفلسطينية نستطيع أن نوسم أحدهم بقصيدة يا مصطفى, أظن أن عبد الله البردوني كانت لديه حاسة نفتقدها بالتنبؤ بمثل هذا البطل, فكتب القصيدة باسمه, أو أن باسل كان قد سمع القصيدة بصوت عبد الفتاح القباطي وأصر أن يكون مصطفى, أصر على فكرة الاصطفاء, وما أجمله من اصطفاء, الحديث في حضرة الشهيد الأعظم منا جميعا يطول ويطول, لا يسعنا نحن الأحياء إلا أن نتأمل وصيته لنرى الفلسفة الحقيقية للحياة, يقول أحدهم إن باسل قرأ ما يربوا عن ثلاثة آلاف كتاب في حياته, عند القراءة الأولى للوصية ستشعر برعشة قد تعيدك حيا, لا أقصد بكلمة حي أن تكون وجوديا على هذا الكون, ما أقصده هو أن يكون المبدأ هو فلسفة نظرية وتطبيقية لحياتك, وأن يكون الوطن أحد أهم أركانك, ستجري الرعشة بشكل لا إرادي في أنحائك, وهنا ستقول, ما أعظم هذا الإنسان, استطاع أن يوجز ما يزيد عن ثلاثة آلاف كتاب في سطور قليلة, لم تستطع العربية أن تحوي هذه البلاغة, ستقول لا شعوريا هذا هو نبي الوطن, هذا هو مصطفى يخرج من بين سطور القصيدة.
يخذل من يتغنى بالقصيدة ويجعل من اسمه أسطورة, ستبكي كثيرا إذا تمعنت في عيون أصدقائه, ستشعر بأنك لا شيء, بل أن اللاشيء لن يحتويك, ستقرأ قصيدة أحمد العربي مرارا, وفي كل مرة يزداد المرار في قلبك, سيردد لك باسل المقطع الذي لطالما مررت عنه مرور الكرام, سيقول لك بشغف الشهادة:
"اذهب عميقاً في دمي
اذهب سلالم
يا أحمد العربيّ... قاوم!"
وقتذاك ستخذلك دموعك, لن تكفي دموع الكون لمثل هذا الرجل, وإن كنت من محبين مظفر النواب وقصائده.. ستجده يقول لك بلغة الشعراء الوفية:
"نفذت.. نفذت..زرعتهم قرحا
ونفذت نفذت بعيدا فأصلابهم عاقرة
فإذا طوفوا كان وجهك
أو سجدوا فالدماء التي غسلوها
تسد خياشيمهم ومنا خيرهم وقلوبهم الآثمة.."
ستأتيك بعد هذا المقطع غفوة من الغثيان المباغت, لكن سرعان ما تصحوا على صوت مظفر يجهر حزنه شعرا ويصدح بأعلى طبقات صوته:
"كيف يحتاج دم بهذا الوضوح
إلى معجم طبقي لكي يفهمه..."
إن كنت من أولئك الذين تغمرهم رفاهية الحياة المزيفة, حتما ستهرب من اسم باسل, لن ترى جدران بيرزيت حيث خط اسم باسل وصورته على كل الجدران, ستحاول أن تجد طريقا التفافيا يبعدك عن المنزل الذي تحص به باسل في البيرة, ستهرب من زقاق المخيم, الجميع هناك باسل, لكن الفكرة ستظل تلاحقك.. لا تحاول أن تقرأ لغسان كنفاني, فهو يتحدث أيضا ببسالة عن باسل, أما عن أصدقاء باسل, فحدث ولا حرج, حتى الذين لم يعرفهم باسل في حياته, هم الآن أصدقاؤه, سترى حزنهم في كل مكان, وشغفهم أيضا الذي سيلاحقك, لن تستطيع أن تهرب من كلمات أصدقائه على مواقع التواصل الاجتماعي, المواقع مليئة بالكلام عن باسل, اهرب من هذا الوطن, اتركه لمن يستحقه, أنت تحب اللعنة, ولعنة الاحتلال أغشت بصيرتك.. اهرب مع هذه اللعنة ونم في غابات اللامكان, واللازمان, المكان لنا والزمان زماننا.