كنا جسداً يحمل روحاً صرنا روحاً تحمل جسداً، أصبحنا جسدنا وروحاً يحملهما النصر والكرامة والعزة، كنا شهداء مع وقف التنفيذ، صرنا أجساداً في مقبرة الأحياء، أصبحنا أحراراً رغم قسوة القيد.
كنا نقرأ التاريخ صرنا نصنع التاريخ، بل أصبحنا من يكتب عنه التاريخ!
في السابع عشر من نيسان كانت البداية وفي واحد وأربعين يوماً تكونت الحكاية وفي السابع والعشرون من أيار كانت نهاية الحكاية وبداية الرواية، انطلقنا بيقين المؤمن بالله المتوكلون عليه المجاهدون في سبيله، بعد أن أعددنا ما استطعنا من قوة.
انطلقنا بتخطيط ثائر وخضنا بشجاعة باسل ومقاتل ومغامر العنوان الحرية والكرامة والهدف النصر أو الشهادة السلاح ماء وملح وصبر وإرادة، الجنود الجسد والروح في الساعة السابعة من يوم الاثنين الموافق السابع عشر من نيسان انطلقت معركة الأمعاء الخاوية، وبدأت الموجهة المباشرة مع السجان الذي يمتلك كل الأسلحة سواءً من عتاد وعدة هذا من جهة ونحن الذين لا نملك سوى الإيمان والصبر والجسد والروح من جهة أخرى.
بدأ القمع والتنكيل والإستفزاز في محاولة لإرهاق الجسد واستنزاف طاقته وبدأنا بالمواجهة، فالكل يعلم أن الجسد هو الذي يحمل الروح، ولكن في معركتنا هذه كان سلاحنا القوي هو الروح التي تحمل الجسد فكان السجان يجهل ما هي مقومات صمودنا، كان يجهل أننا كنا نغذي الروح ثلاث وجبات روحانية وفواكه معنوية وتحلاية إيمانية.
فكانت وجبة الفطور مكونة من صبر وتضحية وعطاء وفداء، وكانت وجبة الغداء معطرة برائحة دماء الشهداء وتضحياتهم وبأنين الجرحى وآلامهم بمعاناة كل أسير وأسيرة وشبل، وكانت التحلاية اليقين بنصر الله ونصرة أبناء شعبنا الباسلة لنا ووقفتهم العظيمة وراءنا وثورتهم ونضالهم وعطاءهم، وكانت وجبة العشاء حرية وعزة وكرامة، أما الفاكهة فكانت زغرودة أم شهيد دمعة زوجة أسير آهات أبناء الشهداء وأبناءنا.
أما عند النوم فكانت السماء هي الغطاء بالدعاء وطلب العون من ربنا الكريم بالنصر وأن بتقبل ما نحن في جهادٍ في سبيله، وكان فراشنا الأرض التي منها خلقنا منتظرين العودة اليها شهداء لتحتضننا في ثراها، في قبر حنون كحنان الأم أو أكثر أو تحملنا فوقها مكبرين مهللين فرحين بالنصر فكان الزمان يمضي على هذا النحو بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه وأسابيعه وشهره وزاد عن ذلك لتصل مدة المعركة واحد وأربعون يوما.
نعم واحد وأربعون يوماً، فيها حزن وفرح وأمل وانتظار وصمود، إلى أن جاءت مرحلة الحزم مرحلة النصر وقطف ثمار ما زرعناه مرحلة أخرى بهذه المعركة الملحمية، فخضع السجان وأخذ يبحث عن مخارج ويستجدي التفاوض في الوقت الذي كنا فيه بعزيمة وهمة تكفينا للإستمرار مدة تفوق ما مضى دون كلل أو ملل أو شكوى.
وبدأت مرحلة أخرى أشد وطئاً وأحمى وطيساً، وأكثر حنكة وحكمة عنوانها "وما النصر إلا صبر ساعة" وتستمر معركة التفاوض ما زاد عن عشر ساعات، وجاء القرار من ذلك القائد الثائر بإنهاء هذه المعركة البطولية الملحمية معلناً النصر المؤزر إلى جنوده البواسل.
وهنا وفي هذه اللحظات التي اختلط بها نشوة النصر وآلم الجو، وانهمرت دموع الرجال هاتفين الله أكبر ساجدين شكراً لله، وبالنسبة لي كانت دموع عزة وحرية وكرامة، فهنا أقتبس القول إذا رأيت دموع الرجال تنهمر فعلم أن هناك أمر جلل نعم إنه أمر جلل، فها هي واحد وأربعون يوماً من الجوع والصبر والصمود، وعشرين كيلو من اللحم بذلت من وزني وواحد وأربعون يوماً من الجوع أعادت العزة إلى ثلاث وأربعين من العمر كان عنوانها الإحتلال والقهر.
واحد وأربعون يوماً من الجوع أعادت الحرية والنصر إلى أربعة عشر عاماً من الأسر والحرمان، واحد وأربعون يوماً من الجوع أعطت أملاً وروحاً وصبراً إلى مائتان وستة سنون متبقية لي بالأسر.
نحن المؤمنون في زمن الردة، نحن المتقدمون في زمن التراجع والتخاذل، نحن الفدائيون رغم العزلة، نحن الإستشهاديون رغم حبنا للحياة، ونحن المجاهدون في سبيل الله رغم افتقادنا للأسلحة، ونحن الأقوياء بأمعاءنا وجوعنا ولحمنا وصبرنا وعطاءنا، ونحن المؤمنون بحتمية النصر والله أكبر ولله الحمد إن ينصركم فلا غالب لكم.
إهداء إلى روح الشهداء الذين دفعوا أرواحهم بتضامنهم معنا، إهداء إلى الأم الحنونة الماجدة، إلى الزوجة الحبيبة الفدائية، إلى أبنائي الأشاوس، إهداء إلى أخوتي وأخواتي وأبناهم المعطاؤن، إلى أبناء بلدتي سلواد الصمود، إلى أبناء شعبي الأوفياء، إهداء إلى كل متضامن معنا ودعمنا.. إهداء إلى أحرار العالم.
الأسير هارون عياد المعتقل منذ الرابع من تموز 2003، المحكوم بالسجن مؤبدين وعشرين عاماً
قلعة الشهيد عبد القادر - سجن عسقلان