التحاور بين طلاب إسرائيليين وطلاب فلسطينيين في تلفزيون لندن
إن الطالبين الجامعيين الفلسطينيين (طالبة وطالب) اللذين ذهبا الى قبرص لمنازلة طالبين إسرائيليين في شأن المسألة الفلسطينية قد حققا في رأي كثير من المشاهدين انتصاراً ساحقاً في المجادلة على الطالبين الإسرائيليين اللذين مثلا حالة من السطحية العاجزة، لكن الذين شاهدوا البرنامج لاحظوا أيضاً أن الإطار الذي قدمت فيه المجادلة كان إطاراً يحمل على تأييد "إسرائيل".
إن أغلبية الحالات التي جرت فيها مواجهات من هذا النوع في برامج إذاعية وتلفزيونية متعددة في أوروبا وأميركا كانت تنتهي لمصلحة الطرف العربي، وهذه النتيجة ليست غريبة، وكل من يعرف شيئاً عن وجهات النظر الإسرائيلية، والفنون الإعلامية يعرف عادة كم هي هشة في حالات النقاش.
ومع ذلك، فإن السبب الذي يحملنا على الدعوة إلى رفض هذا النوع من الترف لم يكن قط الخوف من نتيجة المبارزة الكلامية، أو الخشية من "صلابة" الفهلويات الإسرائيلية القابلة للكسر بسهولة، عند مواجهة فيها الحد الأدنى من الموضوعية.
السبب الأول هو أننا في حالة حرب مع هذا العدو، ومقاطعتنا له ليست نابعة من موقف وجداني، لكنها نابعة من طبيعة المواجهة التي نعيشها ضده، وهذه المقاطعة هي، في حد ذاتها وجهة نظر وموقف.
إننا ندرك أن كسب الرأي العام العالمي - في هذه المرحلة على الأقل- لا يقدم ولا يؤخر مثل هذه المبارزات الكلامية، وعلى العكس تماماً فإن أجهزة الإعلام البورجوازية تستخدم مثل تلك المبارزات للإمعان في لعبتها التي تحقق لها في نهاية التحليل سطوة أشد على عقول جمهورها.
إن "بي بي سي" لندن، التي ذهب بها "تسامحها" الى حد فتح الفرصة أمام طالبين عربيين كي ينتصرا في مبارزة كلامية على طالبين اسرائيليين، قبل حادث الهجوم على مطار اللد بـ ٢٤ ساعة فقط، تعمدت طوال الأسبوعين اللاحقين رفض تمرير عبارة واحدة لمصلحة الفلسطينيين في كل نشراتها الإخبارية، الى حد اضطرت معه الى تزوير تصريحات وبيانات فلسطينية واجتزائها كي تجندها في خدمة حملتها العنصرية.
ولدينا كل الحق للإعتقاد أن تلك المبارزة الكلامية قد خدمت بصورة لا مثيل لها هذا المنهج المنحاز، ومن المؤكد أن مثل هذا العمل ليس نتيجة مؤامرة شيطانية أو تخطيط سري، لكنه نتاج منطقي للبنية السياسية والإيديولجيا التي تحرك أجهزة إعلام من هذا الطراز.
إننا بصورة إجمالية وعلى الرغم من كل تجاربنا، لم نستوعب بعد مدى انحياز وسائل الإعلام البورجوازية الى الحركة الصهيونية التي تراها كجزء حيوي من منطقها وتطلعاتها، وحسن ظن كثير منا بكمية المظاهر الديمقراطية الحرة وجدواها في وسائل الإعلام هذه، وطابع "البرلمانية" و "الحوار" الذي تمنحه لنفسها هما في الواقع نتيجة مدى تغلغل سطوة هذه الوسائل الإعلانية في بعض عقولنا.
إنني أجرؤ على القول، من خبرة مادية وواقعية، إن هدر مئات الساعات مع الآلاف من الصحافيين والإذاعيين الأجانب، خلال السنوات الماضية، قد أدى الى نتائج لا تكاد تذكر، والشيئ الوحيد الفعال هو حجم العمل المسلح والعمل السياسي في أرض المعركة ذاتها، وليست هذه الملاحظة بعيدة عن موضوعنا، إذ إن مقابلة كل صحافي وكل إذاعي هي في الواقع حلقة من الجدل العنيف، هي - لو شئنا - شكل من أشكال المبارزات الكلامية، فالأحرى أن يقوم هؤلاء الإعلاميون بفتح مسرحهم أمام تمثيلية بين طلبة عرب وطلبة إسرائيليين. فذلك مشهد ليس عديم النفع فقط، بل ضار بالنسبة إلينا أيضاً.
إن مقاطعة العدو، ورفض حوار الإقناع معه من خلال المبارزات الكلامية، هو في حد ذاته موقف. هو وجهة نظر. هو شكل من أشكال الصدام.
ومع ذلك فإن هذا الشكل الإعلامي (أي الحوار الكلامي مع العدو) هو شكل واحد فقط بين عدد كبير من الأشكال الإعلامية التي يمكن أن نستخدمها في الغرب، شرط أن يظل هذا الإستخدام مشدوداً إلى الحقيقة الجوهرية التالية: إن تغيير ميزان القوى الإعلامي في الغرب لا يحدث إلا في ميدان القتال.
إذا استعوبنا هذه الحقيقة استيعاباً عميقاً وجيداً صار بوسعنا معرفة ما هو أصح إزاء مختلف الأشكال الإعلامية التي يتعين علينا انتهاجها: إن أي شبكة تلفزيونية ليست مستعدة لإعطاء أي فلسطيني، في حال سكون الثورة دقيقة واحدة ليعبر فيها عن رأيه، لكن هذه الشبكات ترغَم إرغاماً على فتح شبكاتها أمام صوت المقاومة حين يصبح الحجم القتالي والسياسي لهذه المقاومة من الكبر بحيث يدخل، أو يمس، الإطار اليومي لحياة الناس في الغرب. وعندها لا نعود في حاجة الى تقديم مشهد مسل من مشاهد المبارزات الكلامية، مع عدونا المنصرف الى قتال شعبنا واستعباده، أما أميركي أو سويدي أو ألماني يتعشى "الهوت-دوغ" أمام شاشة التلفزيون، ولا يختلف الأمر عنده إن ذهب العرب إلى الصحراء أو ذهبوا الى جهنم، مهما تكن قدرة المجادل العربي على الحذلقة!
إن عملنا الإعلامي في الغرب يجب أن يستند الى الأصدقاء، إلى الحركة الثورية في البورجوازيات الغربية، ولا يمكن أن يتكون رأي عام عالمي يقف إلى جانبنا من دون جهد هذه القوى اليسارية، وتبنيها القضية، وبوسع هؤلاء الأصدقاء أن يقرروا عند ذاك، في ضوء الواقع الذي يعيشونه في مكان معين وزمان معين، الأشكال الأفضل للمعركة الإعلامية.
الإعلام معركة - هكذا يقول لينين - وبالنسبة إلينا فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصاراً إذا ما جرى خوضها من خلال المبارزة الكلامية مع العدو أمام رأي عام منحاز في مجمله، وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهرياً ضد قضايانا. إن الجلوس مع العدو - حتى في استديو تلفزيوني- هو خطأ أساسي في المعركة، وكذلك فإنه من الخطأ اعتبار هذه المسألة مسألة شكلية.
إننا في حرب، وهي بالنسة الى الفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت، ولا بد من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني الشروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز.
المصدر | كتاب الدراسات السياسية لغسان كنفاني