على دوار نابلس، ووسط قلبها النابض بالحياة، نصب ناشطون خيمة للتضامن مع الأسرى الجوعى منذ أكثرَ من 35 يوماً، دقوا أوتادها في الإسفلت، أعداد الموجودين فيها بالعشرات عموماً، يقلون حيناً ويزيدون أحياناً أخرى، هذا إذا استثنينا الصحفيين والمخبرين والشخصيات الرسمية ومرافقيهم.
تحت أستارها ويافطاتها المزينة بالعبارات الرنانة، تفيأت أمهات وزوجات الأسرى ظلالها، واتكأن على صور ذويهم، ينصتون على مضض لبيانات الشجب وخطابات الاستنكار، الحسرة تملئ قلوبهم وتركت آثاراً غائرة على وجوههم الشاحبة، يتكلمون مع بعضهم حيناً مواساة ورفعاً للهم، ولكنهم يفضلون الصمت في أغلب الأوقات.
خارج هذه الخيمة تبدو الصورة مختلفة، فالصخب والضجة يملئان المكان، على بعد عدة خطوات منها من الناحية الغربية، يقع البنك العربي، آلاف الناس يقصدونه يومياً، وماكنة حجز الدور تنفد "أوراقها" سريعاً ويتجاوز أرقامها أحياناً الأربع خانات.. حارس البنك يَدُعُّ المصطفين دَعّاً بعد الثانية ظهراً، أما خارج المبنى فطابور طويل أمام صرافه الآلي، يعطونه بطاقتهم ويهبهم المال المنتظر.
على بعد أمتار من المنتصبة من الناحية الشمالية، محل لبيع عروض "الشوكلا"، مئات الزبائن يتدافعون أمامه، كل يريد أن يحظى بشيء من المعروض قبل نفاد المخزون، بعضهم عجائز لا يبالون لمرض السكري..
على الناحية الشرقية للخيمة ترى مطعماً يلتهم مريدوه المتزاحمون سنادويشات الشاورما دون أن يخطر ببال بعضهم أولئك الجائعون خلف القضبان.. تكمل سيرك فترى آلافا آخرون موزعين على محلات الملابس المنتشرة أينما ولَّيت وجهك في المدينة..
وسط هذه الحالة بدت الخيمة كأشرعة سفينة تبحر وحدها وسط أمواج عاتية، يحيط بها الماء من كل جانب، ولكنه ماء التجاهل واللامبالاة والانشغال بمتطلبات الحياة ومشاغلها...
يتدخل أحدهم في هذه اللحظة ويسجل اعتراضه قائلاً: عجلة الحياة يجب أن لا تتوقف "كرمال" الأسرى.. هل تريد منا مقاطعة الشاروما والشوكلا؟ يجيب آخر: من قال هذا؟ الأسرى أنفسهم لا يطلبون ذلك.. هم يريدون منا بعض التضامن ليس أكثر، تضامنا وجدانيا هو أضعف الإيمان، ثم إعلاميا وجماهيريا، حتى تظل قضيتهم حية، وأسماؤهم تترد على ألسنة الناس قبل السياسيين..
أسئلة كثيرة تلح عليك أمام هذه الحالة الغريبة ولربما "الشاذة".. لماذا هذا الفتور الجماهيري عند التفاعل مع القضايا الوطنية؟ هل هو الانقسام اللعين؟ أم الحزبية المقيتة؟ أم هي سياسات السلطة الاقتصادية التي حوّلت الناس إلى لاهثين خلف لقمة العيش وسداد القروض البنكية؟ أم سياساتها الأمنية التي استثنت الإسلاميين ومناصريهم من التضامن مع الأسرى؟.
لماذا تبدو الثقافة الاستهلاكية مسيطرة على عقول نسبة كبيرة من الناس على حساب القضايا العامة؟ ولماذا تتجذر ثقافة "الأنا" على حساب "نحن"؟ هل السلطة الحاكمة مسؤولة ومرتاحة لهذا الوضع؟ أم أن المشكلة تبدأ من منازلنا وتربيتنا أولاً؟ هل ملّ الناس من هذه الفعاليات الروتينية المكررة؟ وفقدوا الأمل بجدواها حتى تسلل اليأس إلى قلوبهم والإحباط إلى نفوسهم؟ هل يمر مجتمعنا بأزمة وطنية حانقة خانقة؟ أم هي فترة برود مؤقتة مبررة؟ لست أدري.. ومن يدري؟