لم يكن الأسرى الفلسطينيون الذين تعجّ بهم زنازين الاحتلال أرقاماً وحسب تملؤها نشرات الأخبار أو هيئات ولجان الأسرى التي تتكفل بمتابعة أخبارهم وأحوالهم، إذ إنها لو كانت كذلك فإننا لن يكون بمقدورنا فهم حقيقة هذا الجرح الذي يصيبنا في مقتل وينغّص علينا حياتنا في زحام المعركة المتواصلة منذ عقود طويلة مع الاحتلال.
إن الأسرى الذين يزيد تعدادهم عن سبعة آلاف أسير، يتركون في قلب كل واحد من ذويهم غصّة لا تبرح تغادر حياتهم منذ لحظة الاعتقال، مخلّفين وراءهم قصصاً من الحَكايات الإنسانية الاجتماعية التي لا تلبث وتُنسى لولا أن يستذكرها أحدهم أو ينبش في خفاياها ليخرج بها إلى الملأ قاصّاً بعضاً من تلك اللحظات ليعيد الشعور إلى ذلك الإنسان المنسي تحت أسنّة السجن وهي تزرع نصالها في تفاصيل حياته المملة الرتيبة.
إنه من المؤسف أن يتناسى الفلسطينيون أنفسهم تلك الحكايات أو أن يضلّوا طريق البحث عنها، بل وتلك الأسماء التي سُجّلت أرقاماً وكفى، وكان من المؤسف تجاه قضيتهم أن نتناسى الأرقام ذاتها، فهي الأخرى لم تسلم من انفضاض الذاكرة عنها، ولو تحدثنا عن أولئك الذين يعتبرون في عداد عمداء الأسرى لجهلنا العدد فضلاً عن جهلنا لأسمائهم وصولاً إلى المكانة التي يجب أن تحتل موقعاً مهماً لها في يومياتنا وتوجهاتنا التي تنأى بشكل كبير عن المرور والتطرق إلى قضية الأسرى، فلا المناهج التعليمية تحتوي شيئاً عنهم ولا المواقف أو المناسبات تخصص لهم الوقت والمساحة الكافية لإبراز المعاناة إلا في مناسبات متواضعة ومبتذلة.
وأن تكون أسيراً محرراً قد عايشتَ عدداً لا بأس به من أولئك الأبطال، فإنه يعتريك القلق إزاء حالة التناسي والتنصّل من حقوق الأبطال خلف القضبان، ويدفعك الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية لأن تكتب عنهم ولو بالقليل مما قد يرسم صورة في مخيلة مَن لا يعرف أولئك القابعين في خاصرة الوطن الموجوع.
أحدهم، انتحى جانباً في طرف "البوسطة"، في الكرسي الأخير منها، وأخذتُ أدقق في ملامح وجهه، لا شكّ أني وفي يوم من الأيام مررتُ على هذا الوجه صورةً على جدار، تقاسيمٌ أخذ الدهر يخطّ فيها خطوطه، هل أتحدث إليه، أخبرت نفسي، لكني أجبتها سريعاً، لا، لا شك أنه ملّ آلاف الوجوه على مدار خمسٍ وثلاثين عاماً، فآثر الصمت طوال الطريق وآثرت النظر إليه خلسةً أتأمل في عظيم صنيعه، يصبر كل هذه الأعوام ونصبر على الخذلان وتقوى ذاكرتنا على النسيان، مَن منّا يعرفه؟ إن الوجع أن نجهل من توقفت عقارب ساعة الحرية بالنسبة إليه منذ السادس من كانون الثاني عام 1983... منذ زمن بعيد جداً "كريم يونس" يقصّ أوجاعه بالصمت إذ بحّ صوته من أول يوم غادر فيه "عارة" وغادر التراب الذي يهوى .. فتروي بدلة الإعدام الحمراء حكايته، "كريم يونس" واحد من أولئك الذين نهوى الحديث عنهم لنخرج من تقصيرنا عن اكتفائنا باعتباره رقماً من بين تلك الأرقام، لقد آلمته كلمات أحدهم حينما طلب منه أن يرسم صورةً لحجم التعاطي مع قضية الأسرى خارج السجون باعتباره أسيراً جديداً في عالم السجن، أبى ذلك الأسير إلا أن يضع له الحقيقة المرة أمام ناظريه، لقد أدرك حينها أنه رقم يمر مرور الكرام في شريط الاحتفال كل عام حين يحتفي الناس بيوم الأسير سرعان ما يغيب...
قصته التي يجب أن تُحكى وتُروى على مسمع العالم كله، لا يجب أن تتوقف عند تلك التفاصيل المتواضعة التي تزاحمت عندها وكالات الأنباء المحلية إذ أرادت إيصالها لكنها فشلت، نعم لم يركب كريم يونس سيارة منذ العام 1983 ولم يستخدم جهاز كمبيوتر ولم يحمل هاتفاً ولم تصل إليه كل التكنولوجيا التي بين أيدينا، لكن خفايا الإنسان الموجوع واللوعة التي تسكن فؤاد ذلك الرجل "العتيق" هي الأجدر بأن تحتل مساحات أوسع كي نخرج من دائرة الأرقام إلى دائرة الإنسان.
ولما سُئل الأسير نائل البرغوثي عن تاريخ اعتقاله، فلم يجد بدّا حتى في هذه إلا أن يرسم الضحكة على مَن كانوا حاضرين يومها في سجن النقب، إذ أنه - وعلى لسانه - " ومنذ زمن الديناصورات يقبع في مغارة الألم وكهف من الأوجاع ترفض الانعتاق عنه، حتى لمّا خرج عاماً وآخر إلى فضاء من الفرح في صفقة الوفاء للأحرار أبت هي الأخرى إلا الانعتاق منه، ليعود إلى السجن مجدداً، قد انقرض الديناصور أما الوجع فلم ينقرض من حياة جبل أشمّ كان من حسن الحظ أن تلتقي به فلا أقلّ من قبلةٍ تطبعها على جبينه تحدّثه فيها عن الخيبة والخذلان الذي يعتريك، أما هو فيطبع في ثنايا الروح إشراقة أمل، كلما نظرتَ إلى وجهه الوضّاء تسلل إلى قلبك بريق من العزة والأنفة والكبرياء.
تلك قصص يحدّثها نائل للأجيال بصبره وصموده فيما يرفض أن يتحدث عن تلك الخفايا التي لا بد أن يرويها الأحرار أنفسهم وليبحثوا عنها، حكايته الأخرى الممتدة خارج الأسوار، لزوجةٍ أسيرةٍ محررةٍ رفضت إلا الانتظار والارتباط بمن أمضى تلك العقود الطويلة أسيراً وما أن يصل الحلم ذروته حتى يعود نائل إلى السجن وتُمنع الزوجة من زيارته وما أن تنتهي محكوميته حتى يُعاد له الحكم بالمؤبد مدى الحياة، حكايات تستنزف الألم وتكوي بنارها جباه المحبين .. منذ ست وثلاثين عاماً وهي تحترق !!.
أما أكبر الأسرى سناً الأسير اللواء فؤاد الشوبكي فله حكايات يحتفظ بها في ذاكرته التي تختزل حجم الألم، ولما قُدّر لي أن ألتقيه مرتين وهو قد أتمّ عامه السابع والسبعين وعامه الحادي عشر خلف القضبان، فلقد أدركت كم تبدلت السنين فيما لم يتغير وحكايته تراوح مكانها قصة رجل عظيم شامخ لم يتبدل ولم يتغير غير أن الأمراض تنخر في جسده الهزيل، فيبدو أكثر وهناً وضعفاً وكانت "البوسطة" تزيد من معاناته فتحيل حياته جحيماً خلف تلك القضبان ... يرفض أن يختار قصته الإنسانية وحكايته مع الوجع والألم ليعبّر عن حجم الحب الذي يحمله لمن هم خارج الأسوار مذكراً إياهم بواجبهم ولو بالكلمة إزاء قضيتهم.
كريم ونائل وفؤاد وحمزة ومروان وجمال و7000 آخرين، ليسوا أرقاماً بل لكل واحد منهم حكاية وقصة وألف ألف جرح، فالأسرى حكايات وقصص إنسانية لا تنقطع، من عاش للحظات وإياهم يدرك أن من واجبهم أن نذكرهم ونستذكر تضحياتهم وجهادهم لأنهم وبكل بساطة ليسوا أرقاماً ...
هذه الأسماء جزء بسيط من تلك الهامات التي نتوارى خجلاً أمام عظيم تضحياتهم التي تنتظر راوياً ليحكيها وبانتظار الرواة الحقيقيين الذين يبرعون في نسج حكايات الفرح والفرج.