ووري فادي الثرى، مخلّفاً خلفه تساؤلات معلّقة وعلامات استفهام كبيرة تبحث عن إجابات، فهل يا ترى دُفنت إلى جانبه أم أنها ستدقّ ناقوس الخطر من جديد لتوقظ فينا جزعنا وإهمالنا وذاكرتنا الهشّة سريعة النسيان والنُكران، في حالةٍ لم تكن الأولى والمواطن ينظر حابساً أنفاسه ولسان حاله يتساءل، من يكون ضحية الإهمال الجديد؟! في وقت تتزايد فيه المخاوف وتتقطع حبال الثقة ما بينه وبين المؤسسة الطبية.
بقلب الأهل والأحبة الموجوع والآهات والدموع الباحثة على مَن يكفكفها ودعت مدينة بيت لحم اليوم الطفل فادي شطارة، المدينة التي شهدت قصصاً يبدو أنها دفنت هي الأخرى ولم تكن إلا زوبعات ما لبثت أن هدأت في فنجان النكران والنسيان، ففادي ذو الأحد عشر ربيعاً لم تختلف قصته عن باقي قصص الألم التي كانت بدايتها "بسيطة" وعادية جداً حيث كان بالإمكان أن تقدّم له الرعاية اللازمة لإنقاذه من تلك المضاعفات الخطيرة بعد وقوعه عن دراجته، غير أن مَن قام بتشخيصه – وذلك حسب رواية الأهل – طمأنهم بأنه لا يحتاج تلك الصورة الطبقية التي كانت ملّحة في وقتها، ليغادر به والده المستشفى ليعود إلى مشفى آخر بعد ساعات قليلة لم يكن بوسعه حينها إلا أن يسارع الزمن في محاولة يائسة لإنقاذ فلذة كبده، حيث كان النزيف قد توغل في دماغه وفات كل شيء، يوم واحد آخر في موت سريري ثم توفاه الله.
قد يقول قائل: هذا قدر الله، ولسنا نعترض على قضاء الله فلله ما أعطى وله ما أخذ، لكن السؤال المحفوف بالوجع إلى متى سيظل مسلسل الأخطاء الطبية سيفاً مسلطاً على رقابنا، فإن طال بالأمس الفقيدة فائدة الأطرش والفقيد أحمد رزق وغيرهم واليوم فادي شطارة فمن يكون التالي ... وهل من حسيب أو رقيب؟؟.
لكن الأمر لم يتوقف عند الأخطاء الطبية على فظاعتها إذ أنه من غير المعقول أن تُعالَج المريضة "في مخزن غير مؤهل" بينما هي تتعالج في المستشفى لغسيل الكلى !! ومن غير المعقول أن يُترك المريض لساعات دون اهتمام وهذا ما أكده أهالي كثر من بينهم ذوو الفقيدة فائدة الأطرش تعليقاً على وفاة ابنتهم داخل المستشفى قبل عدة أشهر حين جرى علاجها في مخزن غير معقم، فالأمر لا يتوقف عند ذلك وحسب ولا عند الصمت عليها بل لا يزال يتعلق بالوضع الطبي بعمومه، وإن كنا لا نستطيع القول ولا نتجرأ أساساً على أن نشمل طواقمنا الطبية العاملة جميعها والذين نكنّ لكثير منهم الاحترام والثقة والتقدير إذ "لا يجرمنّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا"، لكن الأمر ومع كل أسف يستدعي الوقوف عند كل حالة وقفةً حازمة والحدّ من حجم التدهور الكبير والذي لا نلمس له حلاً يتناسب وحجم الكوارث المتجددة، بل نتفاجأ مع كل يوم بقصة وغصّة جديدة قد نكون في يوم من الأيام إحدى ضحاياها.
وفي الحقيقة وحتى ندرك أن الأمر لا يتوقف عند مفصلٍ واحد بل وفي نفس المشفى التي وقع فيه عدد من المخالفات الطبية والأخطاء القاتلة ترى أيضاً أخطاءً لا تنمّ إلا عن معضلة حقيقية بحاجة إلى تصويب واستدراك، فالطبيب الذي لا يحترم كبير السن ولا يعامل مرضاه المعاملة الإنسانية الأخلاقية اللائقة إنما هو قاتل شاء أم أبى، يقتل صورة الطبيب البيضاء الناصعة ويده الحانية ويشوّه العمل الإنساني ويفتك بمعنوية المريض ويضاعف من آلامه وأوجاعه، ففي جعبتي حكاية وفي جعبة الكثيرين ممن يترددون على المستشفيات حَكايا ما كنت أسردها لولا أن طيفها المرير يراوح مخيلتي منذ روى لي أحدهم قصته مع "الطبيب" في إحدى مستشفيات الضفة قبل قرابة أسبوعين، وكعادته في إحدى المراجعات المتواصلة منذ أشهر، يقف بين يدي الطبيب المفترض به أن يكون طبيباً ليمسح الألم ويغرس الأمل في قلوب المرضى، يقول له الطبيب: "أنت ستصبح أعمى" متهكماً مستهزئاً!! فتردّ عليه زوجة المريض التي كانت برفقته، لا سمح الله "بعيد الشر"، فيرد ذلك الفاقد لإنسانيته: "لا، إن شاء الله الشر قريب، وبالمناسبة هدية العمى عليّ، عصا للعميان"!!.
فأي إنسانية تلك التي يحملها هذا الذي يتستر باللباس الأبيض وبالعلم والمسمى الوظيفي "دكتور"، وأي علم هذا إن كان بلا أخلاق وبلا معاملة وأي واجب يقتضي منك إهانة المرضى وتوبيخهم بعد أن فشلتَ أساساً في تشخيص حالتهم ومعالجتهم ثم كم من حالةٍ وقصة شبيهة بهذه الحالة، وكم من المرضى لا يريد التصريح بما يجري معه داخل تلك المستشفيات.. وإن كان المريض يرفض أن يرد عليه إلا أنه لا بد من أن يتم إيقاف هؤلاء تحت طائلة المسؤولية الأخلاقية والقانونية كي لا يتغولوا في المرضى وكي يستفيق الغافلون من غفلتهم وسكرة فرحهم بالشهادات والمسميات والألقاب.. لقد قال الطبيب أكثر من ذلك وفي حالات أخرى أعرفها بالاسم واستخدم لغة تفتقد للأدب بل وعلا صوته وارتفع وأرغى وأزبد، و سواء كان مازحاً أو جاداً أو مستهتراً إلا أنه استغل لطف المريض وسعة صدره وحلمه وربما عجزه، وكذا نحن في كل مرة ومع كل قصة إهمال فإننا ننسى بسرعة بل وأسرع مما نتصور، ينتهي الحديث عند لجنة تحقيق، وتصريح هنا، وسرعان ما نُفجع بضحية جديدة .. فنعود لحظة وننسى بعدها دهراً...
إن المستشفى الحكومي في بيت لحم والذي تكرر الحديث حوله في الآونة الأخيرة والذي يخدم ما يزيد عن 200 ألف مواطن لا يكفيه 70 سريراً ولا يكفيه ماكنة تصوير أشعة واحدة !! وهذه الأرقام ذكرها المحامي أنطون سلمان خلال اجتماع مع إدارة المستشفى قبل أيام لبحث سبل تطوير المستشفى والنهوض به حيث الأمر يحتاج إلى قرار وإرادة وإقرار بوجود الأخطاء بدلاً من التعامي عنها وإنكارها وإن كان هناك من تحسينات نلحظها ونشاهدها إلا أنها ليست بكافية على الإطلاق، والمستشفى لا تكفيه طواقم طبية محدودة لا تستطيع التعامل مع الحالات بالشكل المطلوب.
وأنتَ تلمح تلك الوجوه وهي مستعرة غاضبة لا تحتمل الضغط ولا تحتمل قدوم مريض جديد لأن المكان لا يتسع ولأن صدور بعض الأطباء تضيق هي الأخرى في وقت العمل، ثم إن كان من حلول فإنها لم تكن كافية، ولا بد من التعامل مع أرواح الناس بجدية أكثر، فالإنسان الذي نرفع شعاراتنا بأنه أغلى ما نملك أمسينا لا نملك له الشعور بالأمن والثقة داخل المشفى، حيث أضحى المستشفى "مسلخاً" والداخل مفقود والخارج مولود، وهذا لسان المواطن التلحمي وتفاعله مع الحدث يعطيك حجم الخوف والقلق الذي ينتابهم عند كل قصة إخفاق وإهمال وكارثة جديدة آملين أن تتغير الصورة وترتسم مكانها صورة أجمل ...
فلأجل فادي، ولأجل أطفالنا مستقبلاً ولأجل كل مريض لا بد من أن يكون هناك من تحرك لإنقاذ الوضع الطبي وتطويره بما يخدم مصلحة الجميع، لأنه وبكل بساطة ستظل تطاردنا نوبات الهلع والخوف والقلق على كل مريض وكما أن الاعتداء على الطواقم الطبية أمر مرفوض فالمريض هو الآخر بحاجة إلى الحماية من الإهمال والجشع والجهل وضمان عدم الاعتداء عليه في أبسط حقوقه بالرعاية والعناية والاهتمام ...