لأول مرة ينتابني هذا الشعور عندما أهِمُّ بالكتابة عن أسير وأتردد في الحديث عنه وعرض قصته.. فإني أخشى ألا أوافيه حقه، فأمام الأسير شكري الخواجا تبدو الحروف عاجزة والكلمات قاصرة والعبارات ضعيفة والسطور واهنة.. إذا أردتم مثالا حيّاً على الشموخ والعزة.. القوة والمنعة.. فيكفيكم النظر إلى وجه هذا الرجل.. فقسماته تختصر الحكاية وتوجز القصة... قد يبدو للوهلة الأولى ذو كشرة وجمود ولكنها في الحقيقية هيبة ووقار.
يكفيكم مصافحته لتختبروا صلابته وخشونته.. معانقته لتعلموا حرارة الإخلاص لدعوته التي يضمرها بين جنبيه.. يكفيكم الحديث معه لتكتشفوا تواضعه، والعيش معه لتعرفوا بساطته.
في اعتقال الأخير في سجن عوفر عشت مع الأسير الخواجا ابن بلدة نعلين قضاء رام الله في ذات الغرفة "12" في قسم "12".. ومن هنا كانت البداية.. ولكنها لم تكن النهاية..
هو رجل بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. في زمن عز فيه الرجال.. وصار المخلصون لقضيتهم عملة نادرة.. له مع الأسر ألف جولة وجولة.. فمنذ عشرين عاماً خبرته سجون مجدو والنقب.. هداريم وعوفر.. بئر السبع والدامون.. نفحة وجلبوع.. تعرفه زنازين بتاح تكفا والجلمة والمسكوبية، فقد قضى بين جدرانها المظلمة الضيقة أسابيع وأشهر.. تعرفه أقسام العزل جيداً.. ففيها انقطع عن العالم الخارجي مئات الساعات.. تعرفه مشفى العفولة والرملة.. فإليهما نقل مرات ومرات بعد كل مرض أو إضراب عن طعام.
أبو ساجدة الأسير "المخضرم" عايش السجون طوال العقود الثلاثة الماضية، وخبر المراحل التي مرت بها.. فمن المستحيل أن يُذكر اسمه بين عموم الأسرى سواء القدامى أو الجدد ولا يعرفونه ولا يذكورنه بالخير.. لكل واحد معه موقف يسجل وحادثة توثق.
في إحدى مرات اعتقاله التي كانت نهاية العام 1996 تعرض أبو ساجدة لتحقيق عنيف تخلله شبح وضرب، ركل وهز وحرمان من الطعام والنوم لعدة أيام، إضافة إلى سكب الماء الحار على جسده ثم البارد، مما سبب له مشاكل في العظام، كل ذلك دون أن يتمكن الاحتلال من الوصول إلى غايته، أبو ساجدة ضعيف النظر لكنه قوي البصيرة، يعرف الرجال وخبير بهم، عنده فراسة المؤمن، لا يعرف الحلول الوسط.
بعد طول انتظار واعتقال استمر 9 سنوات، خرج الخواجا أخيراً من سجنه ولكنه كان مثقلا بالأمراض التي ورثها جراء التعذيب والإهمال الطبي، ففقد القدرة على الإبصار بشكل شبه كامل في عينه اليمنى، واستمر على هذه الحالة حتى أجريت له عملية جراحية استطاع من خلالها الإبصار من جديد، غير انه لا زال يعاني مشاكل أخرى في السمع حتى اليوم.
بعدها قرر أبو ساجدة الالتفات إلى عائلته وأبنائه الأربعة ساجدة وسجى ومحمد وعمرو الذين غاب عنهم طويلا، فتفرغ لأرضه وانكب عليها عناية وحراثة، وعمل في تربية المواشي، غير أن الاحتلال أراد أن يثبت له من جديد أنه حاضر في تفاصيل حياته ويستطيع في كل مرة تبديد جميع خططه وأحلامه، ليعتقل مرة أخرى، ويفرج عنه بعد فترة من الاعتقال.
تعرض أبو ساجدة "الجد" ذو الـ 48 عاماً خلال اعتقاله الأخير عام 2014، لتحقيق عسكري عنيف، بعد موافقة خاصة حصل عليها المحققون من مسؤول جهاز الشاباك، ولكنه كعادته آثر السكوت والصمت، فمثل ابو ساجدة لا يعرف خيار الكلام والاعتراف، خلال إحدى محاكماته وقف أمام القاضي صارخاً: انظر إلى آثار التعذيب التي تركها المحققون على يدي ورجلي.. ثم كشف عن جسمه، وقال: يا من تدعون الديمقراطية.. داعش يقتلون الأسير مرة واحدة أما أنتم فتفلعون ذلك في اليوم مئة مرة.
شكري الخواجا له من السجايا التي يصعب حصرها.. طيب الذكر.. حسن الخلق.. خيف الظل.. مفعمٌ بالحيوية والتفائل رغم صعوبة وضعه، فقد حكم مؤخرا بالسجن ٧ سنوات، تضاف إلى سنوات اعتقاله الـ17 السابقة.. فقد وجهت له نيابة الاحتلال إعادة ترميم جناح حماس العسكري وتشكيل عدد من الخلايا الممتدة من شمال الضفة حتى جنوبها، وتخزين كميات كبيرة من الاسلحة الخفيفة والمتوسطة، في تطور اعتبره الاحتلال "الأخطر" منذ انتهاء انتفاضة الاقصى..
الخواجا يمارس الرياضة ويلعب كرة الطائرة ويتقنها إلى حد الاحتراف، ولا يجرؤ أحد على محاولة صد "كبساته".. يساعده بذلك طوله الذي يصل المترين وقوة ساعده.. تراه محافظاً على تلاوة القرآن وحضور الجلسات الثقافية رغم أنه معفي من المشاركة بها، يقرأ كثيراً في الفكر والسياسة والتربية، مثقف واسع الاطلاع رغم أنه لا يحمل شهادة جامعية.
أبو ساجدة.. فارس لا يترجل.. مقاتل لا يخلع درعه ولا يغمد سيفه... لا يحني قامته.. ولا يخفض للعدو جناحا... لمثله ترفع القبعات وتنحني الهامات وتصفق الأكف.. وتكتب أسماؤهم في سجلات الخالدين.