أريد أن أخبرك أنّه بعد اليوم لم تعد ملكًا لعائلتك، وفي ظلّها. لقد بتَ ظلًا لنا جميعا؛ نحن أصحاب الأجسام الخدرة الآن. "إحنا مقتنعين إنو الشهيد مش ابننا من يوم ما صار شهيد، هو ابن الشعب وملك الشعب وملك الناس". أتعلم أنك أغويت شهيدًا جديدًا بالذهاب إلى المكان المجهول الذي تبعثرت فيه أنت؟ وأتعلم أنك رفعت السقف كثيرًا لمن تبقّى من الأحياء منّا، بل وأثقلت علينا الحمل؟
أتعلم أنه برغم كل الإرهاصات التي كانت تشير بإصبعها إلى استشهادك يومًا ما، إلا أنني كنت أتحايل على نفسي بصورة مؤسطرة لك؛ في أنك بـ"سبع أرواح"، وصعب أن تنسحب إلى ما وراء السماء؟ الثقب كبير في قلبنا يا صديقي. أعلم أننا كنا سندفع فاتورة الخسران في الحالتين؛ ثمن عدم التعرّف بك عن قرب، وثمن الالتحام معك يومًا ما. صحيح أنّنا اكتسبنا خسارة الفقد، لكن بالمقابل سقط احتمال آخر للخسران من علٍ؛ تحديدًا من السدة التي كنت تعتليها ودمك.
الآن، أسمح لنفسي أن أغبط هذه النفس نيابةً عن غزّة. جئت قبل سنة ونصف إلى هنا، محمّلة بالذكريات والبحر و"المسافة صفر" واختباراتنا الدائمة. جئت وأنا أعلم أن هذا المكان يضيق بنا، لكنّك كنت أرحبَ من هذا المكان بكثير. لطالما قلت لي مازحًا "غزّة تلقي بقاذوراتها هنا" من رحم التجربة سلفًا، وعلى طعامٍ كنت أعددته وتناولناه سويًة مع بعض الأصدقاء بأنّه "ليس بطعام، بل حشوة صواريخ". يومها، قلتَ لك مازحةً: "نغزوكم ولا تغزوننا". اسنح لي الفرصة الآن لأعتذر لك عن هذه الجملة. غزوتنا يا صديقنا من رأسنا حتى أخمص قدمينا، من الشمال إلى الجنوب، من شرق الأرض إلى غربها، من صحونا إلى منامنا، ومن العبارات المجرّدة إلى نقاء الفعل وطهره. غزوتنا بأنّه لم يعد لنا حجّة بعد الآن حول هشاشة الدور وانكفاء الذات وفردانيتها!
بقدر ما كنت سريعًا في كلامك، كنت سريعًا في التصالح مع ذاتك. لا فصامَ أو شقاقَ بين باسلين وأكثر. كنت سكينًا حادّا مع من كان يدّعي أننا نبعث بأطفالنا إلى حتفهم غير آبهين، ومع من كان "جذريًا مع مجتمعه، براغماتيًا مع عدوّه". لكن بقدر حدّتك هذه، كنت مغطىً بطبقات من الحنو والبساطة. لا تنميق ولا فذلكة ولا ابتذال ولا بلاغة زائدة. تسمّي الأشياء بمسمياتها، وتمضي في دورتك غير الطبيعية في اختبارات الذات مع الأرض.
كنت باحثًا نهمًا تؤرقك الكثير من الأسئلة؛ لا تدّعي المعرفة وإن كنت تمتلك ناصيتها وجوهرها. أتذكّر أنّني يومًا ما شكوت لكَ عن بحثٍ كان من المفترض أن أسلمه للجامعة بعد 3 أيام، ولم أكتب فيه شيئًا بعد. سألتني عن عدد الكلمات المطلوبة، قلت لك من 6000- 8000! قلت لي: بس، هاد بخلصه بليلة واحدة. وكنتَ قد اشتريت مرةً كتبًا من "الدراسات الفلسطينية" بخمسمائة دولار. لم تشترِها يومًا لك فحسب، تقاسمتها مع صديقِ لك. هكذا أنتَ، لم تحب يومًا احتكار المعرفة، مع أنه كان طيعًا لك أن تفعل ذلك بلا أي حساب، وأن تجلس في مركزٍ من ريش نعام.
أعلم يا صديقنا أنّ المعرفة ليست بيت القصيد هنا، بل وجهتها وخيار توظيفها الطوعي بلا أي شروط أو محسّنات أو إملاءات. وأعلم أيضًا أن اللقيا بكَ لم تكن يومًا على أرض السراب؛ لقد كانت لا تتعدّى السبعة أشهر معك. وربما، لا يحقّ لي أن أدعّي هذه المعرفة المختزلة بك. لكن أتعلم أن كل هذا نابع من التزاحم عليك؟ من التسابق فيما بيننا أن أحدنا يعرفك أكثر من غيره؛ أن أحدنا أحقَ بك وبشريط الذكريات معك من غيره، ولو لمحك يومًا في إحدى الزوايا المركونة في الشارع، أو رآك وأنت تعضّ على أصابعك مشتاقًا أو غضبًا أو ضجرًا من شخصٍ ما؟ أثمة مشهد أجمل وأنقى من هذا؟ لكن ما أضيق المكان وما أرحب الفكرة والتأويل.
يا فقيد الأمّة بأسرها، أتعلم أنّه بعد اليوم لم تترك مجالًا لمن كان متوجسًا من اختفائك بردود فعل مختلفة. من كان مذعورًا من وصولك إلى طاقتك القصوى في الفعل خوفًا على عدوّه، أو من كان مسخًا مستخفًا بك، ومحيلًا المسألة إلى "لفت الأنظار". دمك المكسوب في السدّة، وفي بلاط البيت وفنائه أكبر تجلٍ لِحكم الشهادة واستحقاقاتها، غصبًا عن أثخن رأس في مناكب الأرض.
أريد أن أقول لك شيئًا أيضًا. لا تتحمل وزر التفكير بأمك وأبيك وإخوتك. أمّك حالة يجب أن تُدرّس. لم تسل ولو دمعة واحدة من عينيها. كانت تتأملّنا جميعًا، وتكرّر رضاها عنك وفخارها بك. لم تعد فكرة أنها أمّك، وأنكَ من ضلوعها وصلبها تهزّني. وكأنّ هذه الأم كانت فرضَ عين لك. ولا يليق بهكذا ابن إلا هكذا أم. "أم السعيد" تاج على رؤوسنا يا حبيبنا.
اليوم، سرت بنا يا صديقنا على تخوم الاختلاف والإلهام، بل ذهبت بنا إلى معنى أكثر وضوحًا للنصر والهزيمة، لا نصف نصر ولا نصف هزيمة. بتَ أنت السردية الكبرى، نعرّف نفسنا بك، ونحدّد موقعنا بناءً على موقعك. لقد حمّلتنا شقاءَ زخمًا من كومةِ تلالٍ وجبال، لأن الصدق ما بعدك لن يقبل باستقبال نموذج أقلّ منك. لقد رفعت السقف عاليًا، ومهمتنا اليوم باتت أكثر تعقيدًا وإرباكًا.
حبيبنا، لا أعلم إن كنت جوعانا أو البرودة كانت تسري في أوصالك في فترة اختفائك، بل وربما كنت تجرّب أحبالك الصوتية أمام المرآة كي لا تنسى شكل صوتك في عزلتك الطوعية والقسرية في آن. لكن ما أعلمه حتمًا أنك إن عدت لنا قريبًا، أو في قالب من الصقيع لاحقًا، أو إن لم تعد أبدًا، لا يختلف عندنا شيئًا ولو بمثقال ذرّة. وجودك طاغٍ وأبلغ من أي نعش يمكن أن نطوف به، ولا مكان للعدوّ لأن يشكّل طقوس وشروط الاحتفاء بك. ها أنت تقول من علِ بصوت الواثق: "غزوناكم ولم تغزوننا". استودعناك في حفظ الله ورعايته. بأمان الله يا حبيب.