شبكة قدس الإخبارية

المثقّف المشتبك

ميساء منصور

استيقظت في الخامسة، صوت رسالة الفيس بوك اخترقت أذني، ليث كالعادة، السؤال الّذي خطر في ذهني ما الّذي يريدهُ في هذه الساعة المبكرة؟ ولم لم ينَم حتى الآن؟

كانت الرسالة واضحة: باسل يا ميسا، باسل ع الأغلب استشهد ، لم يخطر في بالي شخصٌ آخر، المثقف باسل الأعرج.

بدأت أقلِّب محطات الأخبار الإسرائيلية، بحثًا عن مكان اشتباك غير البيرة، لم أكن أريد أن أصدّق بعد ليلةٍ سيئةٍ في الأساس، أقلّب صفحات الفايسبوك الخاصّة بأصدقائي الصّحافيين، المواقع الاخباريّة النشطة، الأصدقاء البعيدين في رام الله.. ولا إجابة واضحة.

بدَّلتُ ملابسي، حاولت تمالك نفسي بعد ساعتين من الرجاء والدعاء: باسل قال بدو يرجع، يعني رح يرجع.

لماذا كان باسل يقول دومًا، أنه إذا أردت أن تكون مثقفًا دون أن تشتبك، فأنت لست مثقفًا؟، أين تكمن فكرة باسل من هذا القول؟ يخطر في رأسي كنفاني وناجي العلي، لم يمرّ في تاريخ فلسطين أكثر منهما ثقافةً واشتباكًا، كلاهما ودعتهما فلسطين باغتيالٍ فاضحٍ لسلطتنا قبل الاحتلال.

أخرجني ليث مرةً أخرى من تفكيري: ميسا، باسل استشهد.. كيف أحكي لأصحابه؟ كنتُ قد وصلت محطّة الحافلات، أنتظر فيها حتى موعد الانطلاق إلى العمل، لم أعرف كيف أتصرف، أو ما هي الطريقة الأصحّ لاستقبال خبر الباسل، لكني بلا حولٍ ولا قوّةٍ مني، جلستُ على أرضيّة الشّارع، أبكي الباسلُ، باسل فلسطين، البوصلة الوحيدة المتوجهة صوب الوطن، صوب الحقّ، صوب القضيّة.

لم أستطع إلّا التفكير بصديقتي، كانت صديقته المقربّة، وصديقة أخته وعائلته، أخبرني ليث بأنّه قد اتصلّ بها، وأن وضعها كارثيّ، حاولت الوصول إليها عدّة مراتٍ لكن لا إجابة.

بعد الكثير من الوقت، والقلق القاتل، عادت إليّ باتصال لم أسمع منه سوى صوت البكاء المرير، كانت تقول بصوتٍ يحمل الكثير من الأسى: "راح الغالي، راح بدون ما أشوفه كمان مرة.. تركت كلماتها جرحًا في قلبي، جرحُ باسل الّذي لا يندمل".

باسلُ فلسطين، سُجن في سجون السلطة وأخرج بعد اضرابٍ عن الطعام ومدّة سجنٍ ستة أشهر، وجدت في غرفته وصيّته مفادها: "إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء. لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة".

وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله.

قرأت الوصيّة ولم أملك سوى طرح السؤال الّذي يأتي على عقلي منذ فترة: لماذا يختبئ الشباب الفلسطيني المثقف خلف المقالات في المواقع الإخبارية، لماذا قررنا جميعنا الاختباء خلف الشاشات وخرج منّا باسلٌ واحدٌ واقفٌ خلف كلمته، مصممٌ على بلوع الهدف، مؤمنًا بقضيّته، واثقًا بصرخته؟

نحنُ من ورائك يا باسل، نمسك أقلامنا فقط، جبناء بحجم خيبتنا، واثقين بكَ، بفكرتك، فمهما غيّبوا عنّا الجسد، فأنت كنت فكرة والفكرة لا تموت.