بات الليل يشكّل هاجساً للفلسطيني الذي بات ينتظر طرقات الجيش أو أن تعاجله طلقات الاحتلال في صدره أو قذيفة أو قنبلة تجعل مِن الباب أثراً بعد عين، كثيرون باتوا لا يعلمون للنوم طريقاً في الليل، وأمسى المشهد بائساً مستسلماً لليل المجهولة نهايته المتربصة بكل الأحلام وحتى في يقظتها.
أضحى الهواء ملوثاً والسماء مكتظة بالسموم، تكاد أن تمطر موتاً وكان..
في أزقة المخيم الملتهب والأرض الثائرة الغضبى، بركان من غضب وطوفان من جحيم يعصف بمن هم وراء الجدار أو أولئك القابعون أعلى البرج العسكري، النار تطالهم وترتد إليهم كل حين، الجدار بات هشّاً أمام معاول الفتية يريدون شق طريقهم إلى أرضهم هناك في الداخل، إلى المالحة وبيت نتيف وليس بعيداً من القدس، الأرض تشتعل نارًا وبركانًا وهي تموج بالثائرين المتدثّرين تراب الوطن والملتحفين سماءه من جنوبه إلى شماله..
ليل الضفة الحزين ونهارها بات على السواء، لا يعرف الناس هنا لذة النوم وفيما عرفه بعضهم فقد كان نوماً مختلفاً تيقّظوا منه في مكان آخر لا يشبه أي مكان، فرائحة الهواء ولون السماء الكئيب والهدوء المختلط بالضجيج في سماء الوطن تُنبئ بموت قادم
يختلط الدخان المتصاعد من الإطارات بالدخان الأبيض المسيل للدموع ويلتقي صوت الرصاص وقنابل الصوت بصوت ضربات الحجارة وصدى التكبيرات هنا ضفة البركان والغضب، هنا مخيمات اللجوء، هنا بلاد تأبى الذل، وتدّخر الفرح مستقبلا، رائحة الموت القادم نحوها تجاوزت زخات الرصاص والحصار والخنق والتهديد..
ينطلق "الباسل" باسلاً صنديداً يحكي عن الليل وهو يغازل مطارداً ومثقفاً واعيًا، كيف له أن يرتحل والليل لم تنتهِ حكاياته بعد، والجرح غائرٌ ينفذ إلى القلب، فالليل في أوله اعتقال وفي أوسطه قمع وتشريد وما كان لآخره إلا أن يكتب لوحة من المجد يسطّرها الباسلون بدمائهم رافضين الانصياع، حاملين لواء النصر إلى الخانعين المتشبثين باللاحياة، بعدّةٍ لا تقل أهمية عن ذلك الذي آثر الباسل أن يشتبك به مع الاحتلال، فأعدّ العدّة وهيأ للأيام ساحها ومدفعها.
تدفع ليالينا الثكلى بالمشتتين والمهجّرين والمثقفين العاملين في صف المواجهة الأول، يقتربون مع كل شهيد وأسير خطوة نحو القدس، القدس التي خلف الجدار، أما الذي في البرج أعلاه على امتداد ضفة الألم فغداً ينهار مع الجدار، وغداً يهاجر المهجرون والواعدون المتطلعون للنصر نحو قدسهم يعلنون موسم الحياة، يبدأون مواسم الأفراح، ويموت الذل وينتصر الأمل.
لم تنته الليلة الماضية عن سرد فصل جديد من فصول نخشاها – بعيداً عن الخوف – بل لأنها كانت ستحمل إلينا ككل ليلة حالةً من الفقد والمرارة والألم الذي أضنى الفؤاد وأدمى المقل، ما أن نتجرعه حتى يظل القلب ملتاعاً تائهاً هائماً في الضياع والوجع لبداية جديدة.
لقد بات الصباح كوجبة من الوجع لا بد من أن نتجرعها مع كل إطلالة شمس، تتفاوت بتفاوت الأثر الذي تتركه في نفوس المعذّبين، حتى بات الواحد منا يخشى الصباح، ولا يريد لعتمة الليل أن تجيء كي لا يجيء معها الضيوف الذين لا نطيق وجوههم ولا ما يحملون في قلوبهم وأيديهم نحونا، نحن هنا والباسل هنا، باسلون متمترسون بالحياة حتى الرمق الأخير، حتى يطلّ الفجر يوماً دونما صباح ملوّث بضوضاء الجراح.