بعد عملية اغتيال الجمالين في تموز 2001، وقف الرجل في ساحة مشفى رفيديا في نابلس خطيبا يرفع من معنويات الناس الذين أصيبوا بالصدمة ويشد من أزر رفقاء الشهداء وذويهم... فالمصيبة كانت كبيرة والفاجعة عظيمة.. كان الشبان والرجال يبكون كالأطفال وتسمع زفراتهم وشهقاتهم من بعيد، في حين تمسمر هو متحدثا صلبا قويا متماسكاً... وشيئا فشيئا بدأ الناس يستفيقون من سكرتهم وأخذوا يكفكفون دمعهم بعد سماع كلامه.كل يسأل عن هوية ذاك الرجل ذو الجسد النحيل واللحية السوداء الخفيفة.. حتى بدأ اسمه يتردد على ألسنة المشيعين.. إنّه "عدنان عصفور".
لم يكن الناس يعرفونه من قبل ولعلهم معذورون في ذلك، فقد كان "أبو صايل" مغيباً في سجون السلطة ومقيماً في "الجنيد" منذ أكثر من سنتين قبل اندلاع انتفاضة الأقصى.. أما بعدها فقد صار أحد قادتها ووجوهها الدائمين.. تراه في جنازة كل شهيد يتقدم الصفوف ويرثي السابقين.. أما في الندوات الفصائلية واللقاءات الفضائية فتجده متحدثا سياسيا واعيا.. عميق الفكر.. منخفض الصوت.. قوية الحجة.. رصين الكلام..
وبعدها بدأت قوات الاحتلال تبحث عنه وتلاحقه إلى أن وقع في قبضته في منتصف العام 2003، بعد ثلاثة أعوام من المطاردة والتعقب المتواصل.. ومنذ ذلك العام صار السجن بيت "أبو صايل" الأول ومنزله الثاني.. يُعتقل حينا ويفرج عنه أشهر ثم يعاد اعتقاله مجددا... وبهذا يكون "أبو صايل" قد قطع حاجز الـ15 عاما في سجون الناطق سجانوها بالعربية والعبرية..
خلال اعتقالي الأخير في سجن عوفر زادت معرفتي "بأبي صايل" وقويت صلتي به.. كنت أمشي معه يوميًا لمدة تزيد عن ساعتين، نقلب فيها صفحات الماضي ونعلق على الحاضر ونحاول معرفة شكل المستقبل.. حدثني خلالها عن تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين عموما ونابلس خصوصا.. عن اختلاف وجهات النظر التي عصفت بالحركة قبل انطلاق الانتفاضة الأولى بين جيل الشيوخ والمؤسسين الذي فضلوا التريث وعدم الاستعجال وإكمال مسيرة التربية، وبين جيل الشباب الذين دفعوا باتجاه بدأ المواجهة مع الاحتلال والانتقال من المرحلة المكية إلى المدنية.
كان أبو صايل من قيادات الصف الثاني، عاصر الأول، فأخذ منه الحكمة وطول النفس، وعاصر الثالث والشباب فأخذ منهم الشجاعة والحماس.. حدثني عن أبرز رموزها المعروفين والمغمورين (عند الناس.. معروفين عند الله).. حدثني عن أهم المحطات التي مرت بها الحركة.. أين أخطأت وأين أصابت.. كان موضوعيا وأمينا..
خلال حديثه الطويل معي أسرّ إلي أبو صايل بأن بعض رموز الحركة في نابلس اجتمعوا عام 2003 في أحد مساجد البلدة القديمة رغم الاجتياحات والملاحقات، وأعدوا تصورا عن موقف الحركة في حال جرت انتخابات تشريعية ورئاسية، ورفعوا ذلك لقيادة الحركة في غزة، وهو الأمر الذي اعتبروه مجرد هرطقة وحديث سابق لأوانه وفي غير وقته... كان ذلك إشارة منه لطول نظر قيادة الحركة في نابلس واستشرافهم للمستقبل.
امتاز "أبو صايل" بعدد من الصفات والسجايا، فقد كان كما خارج السجن كثير القراءة والمطالعة والكتابة.. يُطل على الأسرى بشكل أسبوعي ليستمعوا منه آخر التطورات السياسية ومستجدات الساحة الدولية.. فكان ورغم قلة وندرة المعلومات في المعتقل قادرا على تحليل الواقع واستقراء القادم..
كان "أبو صايل" محباً لزوجته وأولاده، دائم الحديث عنهم والدعاء لهم، تعلمت منه الكثير في كيفية التعامل مع الأبناء، كانت قاعدته الأساسية الرفق والثقة بهم وتركهم وما يشاءون وعدم إكراههم واحترام عقولهم.
في أيار عام 2014 أصر "أبو صايل" على اللحاق بأفواج الأسرى الإداريين المضربين عن الطعام، رغم أنه كان يعاني من أوجاع "البرتوستاتا"، وعبثا حاولت ثنيه ومنعه، قلت له، أشفق على نفسك فأنت أدرى بوضعك الصحي، أجاب: لا يجب على القادة التراجع في مثل هذه المواقف.
كان "أبو صايل" مقيما في عوفر، في حين كانت محكمته في سالم، وهو ما يعني أنه كان يتكبد مشقة "البوسطة" عند كل محكمة لمدة تزيد عن ثمانية أيام يقضيها في المعابر وحافلة البوسطة اللعينة، كان يرجع بعدها منهك القوى ضعيف البدن شاحب الوجه.
كان أبو صائل في سجنه حسن المعشر لا يشكو ولا يتذمر، دائم الابتسامة ويتمتع بمعنويات عالية، كان مشهورا بتفننه في صناعة حلويات "العاشورا" التي كان يعدها بنفسه بين الفترة والأخرى ويوزعها على جميع الأسرى.
خلال اعتقالي الأخير أُفرج عن "أبي صايل"، ولكن بعد أربعة أشهر أعاد الاحتلال اعتقاله، والتقيت به مجددًا في معبار سجن مجدو بعد يوم واحد من سجنه، قلت له مواسياً، يؤجر المرء رغم أنفه يا أبا صايل، أجاب: لا بل نؤجر طوعًا وحباً ورضاً لله وفي سبيل دعوته.