اسمعني..
هذا العالم يجري كأوركسترا سريعة مجنونة! إلى المرحلة التي نستيقظ فيها من النوم، لا نعرف من نحن؟ وأين ننام؟ وأين كنا؟ وأين نسير؟
خذ على سبيل المثال اليوم شاهدت صديقتي التي كنت ألعب معها بالطين في زمان ما، شاهدتها تقف مع زوجها وبين يديها طفلة تشبه الأميرات، شعرت بشيء يشبه الصدمة، وقفت أتأملها للحظات بصمت مطلق، فلا زالت آثار الطين على يدي لا يزيلها ماء..
ولا زالت أكوام الطين المبتلة تنتظرنا لنكمل عجنها، ولكنني بلحظة ذهولي تذكرت بأنني أنا أيضاً أخبئ في أحشائي طفلة تلعب بالرمال داخل بطني ثم بلحظة ذهول أخرى لمحت وجه رجل يضيء، كان زوجي!
صديقة أخرى كانت تسير معي على شوارع حقبة المراهقة، كانت دائماً تحدثني عن أمجد، وتحمر وجنتيها، تخبرني بأنها لن تتزوج شابًا غيره، تكتب اسمه على كل دفاترها وجدران غرفتها المخبأة، وتعزف لحنه في كل مرة تعزف فيها على آلتها المفضلة، تقول بأنه لا يوجد شاب مثله (بكل البلد)، وبأنه أجمل من عرفت، البارحة شاهدتها تعزف على آلتها المفضلة في حفل رسمي كبير، كانت صبية كبيرة لا تبلس مريولاً بل بدلة، عزفت كل ألحان الكرة الأرضية ولكن لم يكن اسم أمجد بينها..
هذا العالم يجري كأوركسترا سريعة .. مجنونة!
في زمان آخر كنت أقف على أعتاب بيت خالتي.. كانت تستمع إلى أم كلثوم، أعربت عن أمتعاظي من صوتها، قالت لي بأنني لن أحب صوتها إلا عندما أكبر وأقع في الحب، ماتت خالتي.. كبرت.. أحببت.. وقعت في حب صوتها وفي حب تنبؤات خالتي، ولم أزل أقف على أعتاب باب البيت..
في يوم ما من عالم آخر كنت كلما غسلت الأواني وبقيت بقايا الطعام في قعر المكان، أنادي أمي لتزيلها متحججة بأنني (أقرف)، اليوم أزيل بقايا الطعام وأصلح الصنبور وأرمم المغسلة وأركب التاكسي لأفعل هذا في بيت أمي أيضا، ولم أعد (أقرف)!
نحن نكبر ونتوج بشهادات تحمل أسماءنا وأرقام لا تشبهنا، نحب.. نتزوج.. وننجب الأطفال.. كل ذلك ونحن لا زلنا في عمر التاسعة نلعب بالطين المبتل.. تتغير في داخلنا كل التعاريف والمفاهيم.
نكبر.. فنرى والدينا بصورة جديدة، أبونا ليس أبونا الذي كان يعطينا نقوداً نشتري بها الكعك، وأمنا ليست تلك القوية التي كانت تعمل طوال النهار، تعجن الخبز، ركبتاها أصبحتا تؤلمانها، حكاياهم ونصائحهم التي كنا نعتنقها ونلبسها مع ملابسنا كل صباح أصبحنا اليوم ننقدها ونجادل، كل شيء تغير.. ملامحهم وملامحنا.. إلا رائحة حضنيهما، لا زالت بطعم الحليب والأمان والحب..
نكبر .. فنكتشف كذبة الشهادات التي كنا نعلقها على الجدران فوق رؤوسنا، ننقم على الأعمال والوظائف والمؤسسات التي كنا نحلم بها ونحن صغاراً ونراها استعباداً بعد أن كنا نراها سحراً جميلاً ننهي حقبة المدرسة ونركض بحقبة الجامعة لأجلها، ثم نبتسم كلما تذكرنا وجوه الأشخاص الذين كانوا يسألوننا: (شو بدك تسير لما تكبر؟)
نكبر.. فنرى المسجد بصورة جديدة، وتراتيل القرآن نسمعها بشكل مختلف، وتصبح لكلمة الوطن فلسفات كثيرة.. يصبح الحضن والجلاد..
نكبر فنرى وجوهنا بصورة جديدة، وأحلامنا بصورة مغايرة.. ونضحك.. تتغير كل المفاهيم.. كل الأفكار.. كل الوجوه.. كل المعاني.. كل الاهتمامات .. ولا زال الطين المبتل بين أيدينا.. وكوم الطين المبتل ينتظر..