شبكة قدس الإخبارية

العيّاش في حارتنا

أحمد البيتاوي

في إحدى ليالي شتاء العام 1995، داهمت قوات كبيرة من جنود الاحتلال والقوات الخاصة حينا "الضاحية" شرق نابلس، وشرعوا بإطلاق النار في الهواء وقنابل الصوت في الطرقات والزقاق.. كان عدد الجنود أكثر من أن يحصى، فقد جاءوا من الجهات الأربع كجراد منتشر، منهم من جاء بصخب ومنهم من جاء قبلهم بحذر وتسلل.

جاءوا من فوقنا ومن أسفل منا.. براً وجواً أقلتهم المركبات وطائرات الهليكوبتر التي لا زالت أتذكر هدير صوتها ومشهد هبوطها في ساحة قريبة من منزلنا، في حين انهمك جنود آخرون بنصب الخيام في ساحة أخرى... للوهلة الأولى ظن الناس أن الأمر مجرد تدريب ميداني أو مناورة حية سرعان ما تنتهي، كيف لا وقد كان الانسحاب الإسرائيلي من مدينة نابلس مسألة أسابيع ليس أكثر.

بدأ الجنود وعبر مكبرات الصوت بالطلب من سكان الحي العلوي الخروج من منازلهم وتركها مفتوحة الأبواب، سُمح لهم بأخذ الأموال والذهب فقط، "كانت لهجة عربية ركيكة مكسرة"، لا زلت أتذكر والدي وهو يجادل الضابط معترضاً على قراره رافضاً له، في هذه الأثناء أشهر جنود آخرون سلاحهم في وجهه وطلبوا منه بصوت مرتفع مغادرة المكان، لم يكن أمامنا وبقية الأهالي خيار آخر، خرجنا في أفواج جماعية رجالاً ونساء أطفلاً وشيوخاً في مشهد "نكبوي" مصغر.

قام الجنود بتجميع الذكور البالغين في مسجد الحاج أمين أبو زنط، في حين تفرقت النسوة والأطفال على المنازل البعيدة عن المنطقة المستهدفة، أما أنا فتوجهت مع والدتي وشقيقتي الصغيرة لإحدى هذه المنازل.. كان الخوف والترقب سيد الموقف، فلأول مرة تتعرض منطقتنا لهذا النوع من "الاجتياح"، لم تكن هذه الكلمة موجودة في ذلك الوقت، ولم يجد المواطنون كلمة مناسبة للتعبير عن المشهد

كنت صغيراً بالتأكيد ولكني لازلت أتذكر صيحات الجنود عبر مكبرات الصوت.. أصوات الأعيرة النارية المتقطعة..قنابل الصوت وتفجير الأبواب.. نباح كلابهم المدربة المستعورة.. فيما حوّلت قنابل الإنارة الليل لنهار.. كانت ساعات صعبة امتدت من بعد العشاء حتى فجر اليوم التالي، وقد انتهت العملية بتفتيش عشرات المنازل في دائرة معينة محددة كان منزلنا من بينها بالتأكيد، إضافة لاعتقال عدد من الشبان وتحقيق ميداني مع عشرات آخرين.

بعد انقشاع غبار المعركة وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عدنا لمنزلنا، كان زجاجه مكسراً وأثاثه مبعثراً مقلوباً رأساً على عقب، كما بدت آثار قنابل الصوت ظاهرة على البلاط كبصمة سوداء دّلت على مرور الاحتلال من هنا، فيما انشغل الأطفال بتجمع الطلقات الفارغة وشظايا القنابل الصوتية والإنارة... بدأت العملية وانتهت دون أن نعرف أسبابها ودوافعها، ولكن في صبيحة اليوم التالي بدأ الغموض يتبدد حين ذكرت الإذاعة العبرية أن العملية استهدفت تصفية المهندس يحيى عياش الذي استطاع الإفلات بأعجوبة من قبضة جنود الاحتلال، كان الاسم مألولفاً للجميع حتى لنا نحن الصغار، كيف لا وهو من رد الكرامة لدماء سالت في محراب الخليل.

لازلت أتذكر القصص والحكايا التي نسج المواطنون فصولها عن طريقة مغادرة عياش من المنطقة، بعضهم قال انه تمكن من الانسحاب متخفياً بزي امرأة عجوز، في حين ذكر آخرون أنهم شاهدوا قبل بدأ الاجتياح شاباً يرتدي زي دهّان يضع على رأسه قبعة ويحمل سلماً، بينما رجح فريق ثالث عدم وجوده في المنطقة أصلاً.

اغتيال المهندس تحدى عياش الظروف رغم صعوبتها ولم يستسلم للواقع وفرض معادلته الخاصة وسبح عكس تيار السلام وارخى اشرعته في وجه رياح اوسلو القوية، آمن بفكرة المقاومة وفلسفة الجهاد وتشرب معانيها وضحى من أجلها... امتاز بصدق نيته وإخلاصه وبساطته، إضافة لهدوئه الذي كان يخفي خلفه إعصاراً هادراً ورياحاً عاتية.. كان قليل الكلام كثير الفعل، كان يدفع لحركته من ماله الخاص ولم يكن ينتظر المقابل.. استطاع الإفلات من قبضة الشاباك والجيش عدة مرات وبقي متوارياً عن الأنظار أكثر من ثلاث سنوات في واحدة من أكبر عمليات المطاردة التي نفذها الاحتلال خلال تاريخه..

في الخامس من كانون الثاني/ يناير عام 1996 تمكنت المخابرات الإسرائيلية بعد جهود مضنية وأعمال استخبارية متواصلة، من الوصول إلى المهندس واغتياله في إحدى منازل قطاع غزة بواسطة جهاز نقال مفخخ مررته إليه عبر أحد العملاء.

في اليوم التالي خرجت غزة عن أولها في جنازة ضخمة مهيبة لم يشهدها القطاع طوال تاريخه القديم والحديث.. كانت جثة العياش داخل تابوت خشبي تتقاذفه الأمواج البشرية ويتزاحم حوله الآلاف طمعاً بلمس جثمانه، كما بدا وجهه مشطوراً مخيّطاً مائلاً للابتسامة، أما والدته فقدت بدت به بعد أن ربط الله على قلبها، كانت تقصه مرة عن جنب وأخرى من بعيد، فخورة محتسبة راضية.

في أعقاب عملية الاغتيال نظمت حماس عدة مهرجانات تأبينية للمهندس امتدت من الخليل جنوباً حتى جنين شمالا، وفي نابلس أقامت الحركة مهرجاناً تأبينياً كان ذلك بتاريخ 11/1/1996 في ساحة المجمع الشرقي للتكسيات، كنت أحد الأشبال المشاركين في الحفل، حملت راية خضراء وارتديت قميصاً أبيضاً مطبوع عليه صورة لعياش وهو يحمل سلاح "الجليلا" الأسود، كان مهرجاناً ضخماً زاد عدد المشاركين فيه عن 80 الفاً هتفوا بالثأر والانتقام... وللقصة تتمة.