بخطوات واثقة زف إسحاق لعروسه، باتفاق معها أنه لن يكون ملكها يوما ما، فهو ملك للوطن، والخاتم الذي وضعه في إصبعها كان يشتهي أن يضعه في يد تلك الحسناء، حبيبته الأولى والأخيرة (فلسطين).
المراغي ابن بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، "وفخر سلوان" كما قال أبناء حيه، كان يستيقظ في الصباح يرتدي الحطة الحمراء، ويخرج من منزله، "كنا دايما خايفين إنه ميرجعش"، إلا إنهم كانوا يودعونه كل يوم، وينتظرونه.
السابع من آذار عام 1969، اعتقل إسحاق مراغة لأول مرة، بتهمة "نشاطات معادية" وعلى إثر انضمامه لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، "لم نتفاجأ وكنا متوقعين"، أيعقل أن يتفاجأ المرء من ما ينتظر؟
ثلاث سنوات ونصف من الفراق، و إذ به يعود مرة أخرى لينير مصابيح الأمل في قلوب أطفاله الأربعة، ويلون جدران البيت الباهتة، استقبلوه، ولكن هذه المرة اعتقدوا أنها ستكون الأخيرة، هم لم يعلموا أن السجن أصبح بالنسبة له استراحة مقاتل .
في شباط 1975 كان الاعتقال الثاني، لم تكد تنشف دمعة أم جمال حتى عادت للنزول مرة أخرى، فهو ذهب وترك وراءه أربعة أطفال دون معيل، الفرق هنا عن المرة السابقة أنه تم الحكم عليه بالسجن لمدة 23 عاما.
كان الخبر مثل الصاعقة، فجمال لم يزل صغيرا أن يحمل مسؤولية العائلة بأكملها فهو الولد الوحيد لأهله، والمعيل الوحيد لأمه وأخواته الثلاث.
"لما دخل السجن كان يعاني من التهاب بالرئتين"، ولكن على الرغم من مرضه إلا أنه كان أول من خاض إضرابا عن الطعام في سجون الاحتلال، أمعاء خاوية وجسد هزيل، دقات قلب تكاد أن تتوقف، كأنها ترفض الحياة، وتقول أريد أن أموت.
روح تعرضت للتعذيب، رأس تلقى المئات من الضربات الحديدية، سجائر كانت تنهي نفسها الأخير على خدوده المتعبة، تعرض إسحاق، لإجباره على إنهاء إضرابه.
في اليوم الثامن من الإضراب، نقل إسحاق من معتقل نفحة (مقبرة القيادات الفلسطينية) إلى معتقل الرملة ،حيث قاموا بضربه من الوراء بواسطة عصى حديدية، أدت إلى أن يفقد وعيه، ووضعوه بزنزانة صغيرة لا يوجد فيها إلا سرير شبه حديدي، و منع من النوم عليه، ففرض عليه السجان النوم على الأرض، اعتقدوا بأن ذلك سيخمد من عزيمته، وسيرغم على فك إضرابه.
الساعة الرابعة صباحا، "يبدو أنه حان دوري الان "، و إذ بسجان يأتي ليأخذه إلى خارج الزنزانة ويضعه على كرسي ويوجه أنظاره لرفيقه جهاد وهو بالملابس الداخلية، وكأنهم بهذه اللحظة أرادوا تخويفه وأرادوا الحل السلمي معه، فهو ينظر إلا صديقه عاريا من ملابسه، يتلوع من الألم، ويشربونه الحليب رغما عنه ويبصقه باستمرار، فهنا قالوا له بأن صديقك قد فك إضرابه، فلماذا لا تفعل مثله؟
طلب منه الممرض أن يخلع ملابسه و من ثم أتى له بالطعام فرفض إسحاق، فما كان بالممرض إلا أن انهال بالضرب عليه بمساعدة خمسة آخرين، لم يجدوا سوى إسحاق فريسة لهم، كل الضغوط التي كانوا يعانوها من الفلسطينيين خارج السجن، يمارسونها على المعتقلين، وكأن المعتقلين أداة ليفرغوا بها غضبهم وضعفهم وقلة حيلتهم.
"التغذية الإجبارية"!! استغرب اسحاق مما يقال له، أيعقل أن يكون هناك تغذية بالإجبار، لم يستطع تخيل ما سيحل به. وإذا بهم يضعون بربيشا بلاستيكيا صلبا ويدخلونه من فتحة منخاره الصغيرة مقارنة، عندها أحس بأن داخله سينفجر، وأنه يكاد أن يفقد حياته، ثم فقد الوعي .
عندما استيقظ كان ملقى على الأرض ورأسه بجانب قدم شرطي يضع رأسه على مخدة من الريش، وعلى جانبه الآخر الأسير جهاد، كلاهما يعتصر من شدة الألم، فبقي يستفرغ ويسعل من شدة الألم، لكنهم لم يكتفوا بل استمروا بإعادة المحاولة مرة أخرى، وفقد وعيه مرة أخرى.
استمر السعال طوال الليل حاول أن ينادي على أحد السجانين لكي يساعده، فهو غير قادر على تحمل الألم أكثر من ذلك، لكن لم يكن هناك مجيب.
أخذوه أكثر من مرة إلى المستشفى لكن من دون جدوى، فبقى هو ورفيقه يعانون من الألم من شدة التعذيب و التغذية الراجعة، ويصرخون طوال الليل، حتى الساعة الخامسة مساءا قاموا بنقلهما إلى مستشفى سجن الرملة .
١٦ نوفمبر 1983 ، ونتيجة للإهمال الطبي فقدنا الأسير إسحاق مراغة، ليلتحق بقافلة الشهداء الطويلة، فهو اسم حفرته الحركة الأسيرة، و لم ينسى على مر التاريخ .
مرت السنوات ولم يحاسب المذنبون، و كيف يحاسب القاتل القاتل؟!