القدس المحتلة – خاص قدس الإخبارية: ما زالت عيناه تحتفظ بذلك المشهد، عندما تلقى برهان كاشور رصاصة في رأسه قذفت بدماغه على الأرض قبل أن تسقطه في بركة الدم أمام باب المغاربة بالقدس القديمة.
كان أمجد لا يتجاوز العشر سنوات حينها، عندما تسلل إلى نافذة المصلى القبلي في المسجد الأقصى ليسترق النظر للخارج، باحثا عن شقيقه الذي اختفى من جانبه حينما دوى الرصاص ثانيا بلا انقطاع.
الثامن من أكتوبر ١٩٩٠، في تمام الساعة العاشرة والنصف، لا شيء يثير قلق أمجد عرفة وشقيقه اللذين أقنعا والدتهما أن أساتذة مدرسة الأقصى أكدوا للطلاب ضرورة الحضور للمدرسة، "كان المسجد مليءً بأهالي الضفة، كان يوجد أشخاص يوزعون الحلوى على المصلين، وفي جهة أخرى من المسجد كان عدد من الشبان يعبئون سلال المهملات بالحجارة ويقومون بنقلها" يروي أمجد الذي اعتاد على هذا المشهد الذي بات أحد مشاهد الانتفاضة.
قبل بضعه أيام، كان ما تسمى بجمعية "أمناء جبل الهيكل" قد وزعت بيانا لوسائل الإعلام دعت المستوطنين فيه لمسيرة ستتوجه إلى باحات المسجد الأقصى يتم بعدها وضع "حجر الاساس" من أجل ما يسمى "الهيكل الثالث".
آلاف الفلسطينيين توافدوا إلى المسجد الأقصى للتصدي لاقتحام المستوطنين، دون أن يعلموا أن الاحتلال يبيت لارتكاب مجزرة في باحات المسجد سيذهب ضحيتها ٢١ شهيدا ويصاب أكثر من ١٥٠ فلسطينيا.
"أمي أصرت أن لا نخرج من المنزل لأنها سمعت ما تناقلته الإذاعات، ولكن أنا وشقيقي أقنعناها بضرورة التوجه لمدرستنا التي تقع داخل المسجد ... كنا أطفالا نبحث عن حجة للخروج من المنزل واللعب في الأقصى".
يروي أمجد أن أولى المشاهد بدأت بتوافد المصلين إلى باب المغاربة فور فتحه لاقتحام المصلين، وهناك اندلعت مواجهات مع شرطة الاحتلال التي يذكر كيف كانت حينها ترتدي قبعات بيضاء كبيرة.
انتهت المواجهات سريعا قرب باب المغاربة، فيما بقي أمجد وشقيقه يلعبان قرب متوضأ الكاف، "دوى الرصاص مجددا بشكل كثيف وبدأت قنابل الغاز بالانهيال من كل جانب .. الناس بدؤوا يركضون جزء يتوجه إلى باب المغاربة، وجزء آخر إلى المصلي القبلي".
بدأ أمجد يتلفت حوله باحثا عن شقيقه الذي اختفى فجأة ولكنه لم يره، ليختر الهرب إلى المصلى القبلي، "لا كلام يصف ذاك المشهد، ضباب كثيف خيم على المكان من القنابل الغازية، الرصاص لا يتوقف .. ولكن لم أكن أسمع إلا الصراخ".
ركض الصغير بين الجموع وهو يغطي أنفه بعدما اختنق من رائحة قنابل الغاز المسيلة للدموع، "وقعت على الأرض حتي داس علي الناس وهم يركضون متوجهين للمصلى القبلي ... نهضت عندما استطعت وواصلت الركض".
مصاب في خاصرته برصاصة أخرجت أمعائه، رأى أمجد شابا تقف بجانبه امرأة تصرخ وتستنجد احضار الإسعاف، إلا أن الاحتلال كان قد أغلق المنطقة ومنع المسعفين وسيارات الإسعاف كما أهالي القدس من الوصول إلى المسجد.
"كنت أشعر بالرصاص يمر من حولي، شعرت به يمر فوق رأسي ... كنت أتكأ على إحدى الجدران داخل المسجد، كنت أراها تنزف ترابا من الرصاص المتواصل".
شيوخ المسجد الأقصى تناوبوا على السماعات التي تمكنوا من الوصول إليها، يذكر أمجد أن أحدهم كان يدعي على الاحتلال والمستوطنين ويتهمهم أنهم كانوا يبيتون لارتكاب هذه المجزرة، ويحض الشباب على مقاومتهم والتصدي لهم، فيما كان يأتي شيخ آخر يخطف منه السماعة ويقوم بتهدأة الجموع ويدعوا الاحتلال الانسحاب من باحات المسجد الأقصى.
وعن إحدى مشاهد المواجهات يروي أمجد، "تركزت المواجهات أمام باب المغاربة، كان يقع المصابين برصاص الاحتلال، فيركض باقي الناس ليحملوه وينقذوه ويقفوا متصدين ... كانوا بشجاعة لم أراها يوما، ولم تتكرر أمامي".
ويضيف أمجد، "تفاصيل كثيرة لا أذكرها إلا عندما أجلس وأخي نستذكر ذلك اليوم .. كان يوما مخيفا ومرعبا لأطفال بعمرنا، عاشوا هذه المجزرة".
رغم الرصاص والقنابل التي أطلقها الاحتلال بشكل متواصل، إلا أن المحاصرين في المصلى القبلي أقاموا الصلاة، "أذكر أني صليت دون أن أتوضأ .. وما أن انتهت الصلاة حتى اشتدت المواجهات مجددا".
ثلاث مرات، نقل لأمجد نبأ استشهاد والده الذي يعمل حارسا في باحات المسجد الأقصى، فيما الصغير لم يعد يهمه سوى العثور على شقيقه، "التقيت وأخي فجأة، ركض صوبي واحتضنني، وأخبرني أنه تم إخباره أني استشهدت".
استمرت المواجهات بين قوات الاحتلال وآلاف المرابطين حتى صلاة العصر، لتنتهي بانسحاب قوات الاحتلال من المسجد، "قبل صلاة العصر بقليل التقينا بأبي الذي أحضر لنا طعاما وماء .. ثم تسللنا إلى إحدى مركبات الإسعاف وخرجنا فيها خوفا من اعتقال والدي من قبل الاحتلال".
"عمر جديد كتب لنا" يقول أمجد الذي يعمل اليوم صحفيا في مدينة القدس، يوم لم يتكرر في حياته ولم يشهد مثله.
"عندما وصلنا البيت، كان الأهل متجمعين حول أمي التي تحمل القرآن وتبكي، فيما ذهب عمي لاستلام جثمان أبي من مشفى هداسا حيث وصل له نبأ استشهاده" يروي أمجد، لينقل لوالدته بشرى عودته برفقة أبيه وشقيقه دون أن يمسهم سوء.
أيام عديدة مرت والطفل أمجد لا يستطيع تناول الطعام، لهول ما رآه في المسجد الأقصى، فيما لم يمنع فضوله من تقليب المجلات والجرائد التي نشرت صور لشهداء المجزرة التي ما زالت حاضرة في ذهنه.