شبكة قدس الإخبارية

كم مرة على الموت أن يزورنا لننتصر؟

هنادي العنيس

لم يكن يتوقع أحد أن ينجو القيق لتصنع من بطولته خيبة أخرى لنا، فبعد اعلان تعليق اضرابه عن الطعام، ورضوخ محكمة الاحتلال أخيرًا لمطالبه، رأينا كم من الممتع أن تتصفح كل مساء بيديك انقسامات الاعلام الفلسطيني، أن تأكل وجبتك الدسمة وأنت تهز رأسك بينما تركض عيناك سريعًا حتى السطر الأخير في قراءة الاتهامات المتبادلة بالتقصير تارة أو التطبيل لحزب دون آخر تارة أخرى.

لقد فقد القيق وهو البطل الوحيد في هذه المعركة برمتها كل ما كان يومًا يعينه لإخبار العالم في الضفة الأخرى أنه هنا في البقعة التي يتحدث منها، كان ثمة حياة وطفل يلعب، ورصاصة لحقته قبل أن يبتسم لأنه أخيرًا التقط الكرة دون أن تسقط منه، ليسقط هو هذه المرة.

لقد ضحى محمد بكل ما يضعه أمام خيار واحد وهو أن يواجه نتائج اضرابه في كل الأحوال وحده. وربما أنه محظوظ بمن كان معه هناك ويوثق لنا تلك الأصوات العالية عندما كان يصرخ وحده أيضًا في آخر الليل، لكن ماذا عمن تدفن أصواتهم قبلهم؟ ويفقدون أنفاسهم وهم يحاولون أن يخبرونا: "كنا نحب فلسطين مثلكم".

يفقدونها وهم يؤكدون لنا: حاولنا أن نرفع شارة النصر، كانت الرصاصات أسرع، قضبان السجون أكثر سمكًا. لم يتسن لنا أن نجركم إلى أوجاعنا.. لم تحاولوا بدوركم البحث عنا؟

لقد غابت أسماؤنا سريعًا، كبرت ملامحنا قبل أن نحسب على أيدينا كم من الوقت مكثنا هنا، كبرت تفاصيل الحياة بعيدًا عنا، تغيرت الأشياء بفعل اضراب أو ضرب، لا فرق بينهما!

لقد حاولنا من هنا أن نوحد صفوف وجعنا، وبعد أن لفظنا أنفاسنا الأخيرة، أدركنا كم بات من الصعب أن تصرخ الأحزاب في وقفة تضامنية واحدة، لتؤكد فيها: هناك من ينتظر أن يصلي على هذه الأرض قبل أن يصلى عليه.

وهنا، بعد أن كنت إحدى اللواتي تبكين ليلًا وتسألن الله عن الرد السريع، بكيت عن كل ليلة عشر ليالي على أولئك الذين كنت أول من تخذلهم، وأول من شد على أذنيه كي لا تؤذيه صرخاتهم، هي تصلنا، ولكن لسبب أجهله نحن لا نسمعها، أو أنا على الأقل لم أكن أفعل حتى تلك الليلة التي أعلن فيها انتصار القيق، ورحت أسأل الله مجددًا وأنا أعرف بأنني أخذت أكثر من وقتي المسموح معه، وقلت: حسنًا، ماذا عن البقية؟ لقد نسيت اخبارك عنهم، لكنك حتمًا تعرفهم جيدًا!

وانتظرت بدوري، لم أحتفل بالنصر سوى بحضن عابر لمرة واحدة باردة، انتظرت حتى أرى الجانب الآخر. لم تقتلني حماستي، كانت الفرحة وحدها في ذلك اليوم، وعرفت أن هناك خطب ما، وأننا هذه المرة .. لم ننتصر مع القيق!

وأعتقد بأن محمد القيق لم ينتصر لنا أيضًا، وأن أفضل ما يمكن أن نصف به الأمر وأن ننصفه، هو أنه: نجى من الموت بأعجوبة!، نعم، لقد نجى من الموت بأعجوبة بعد أن لمسه عدة مرات، في تلك الليالي التي لم يكن فيها أحد هناك، هل تذكرونها؟ إني أحفظها!

لقد نجى محمد وحده، أعلن عن رفضه، قاوم، مات وعاش، وهو وحده، ولربما كان محظوظًا كونه صحافيًا، وإن كان هناك ثمة انتصار فسيكون انتصارًا محسوبًا لقلمه الحر، وإن أردتم.. لخيباتنا المتكررة، أيضًا.

وأنتم تحتفلون بالنصر ارفعوا مع أعلامكم ما فقده القيق، ثم انتثروا على الأرض أسماء أسراكم.. كم واحدًا منهم رحل بصمت؟

سيسألني أحدهم، "إذن عن أي نصر سنتحدث إن لم تكن قضية القيق نصرًا؟ وأجيب: بأننا سننتصر عندما تصبح قضية القيق البوصلة التي ستغير اتجاه السياسات الاسرائيلية إليها وتعمل على الغاء قانون وسياسة الاعتقال الاداري التعسفي، ومواجهة قوانين الاحتلال العنصرية التي تنهك حقوق الأسرى وتخالف القانون الدولي.

سننتصر عندما تحمل وقفاتكم التضامنية كلمة موحدة، ومطالب ذاتها، وألوان علم لا يعرف عن اسمه سوى كلمة (العلم الفلسطيني).

سننتصر إن احتضتت خطاباتكم كلماتنا، وجلستم على طاولة واحدة تصرخون فيها بأصواتنا، بلهجتنا "الكنعانية"، ثم تلتفتون إلى كاميراتنا وأقلامنا وورقتنا الوحيدة، وجهكم نحو البعيد يصرخ: من أنتم؟ أسمعونا أصواتكم!.. ليعرف كل أسير وجريح ومصاب ويتيم وفقيد ومريض وفقير مظلوم ومقهور عن نفسه.

سننتصر حينها، وعندها فقط، سأصفق وأنا عاجزة عن كبح ابتساماتي وشارة النصر التي ارتسمت على بقاع جسدي كلها.

ليأتي دوري كي أسأل هذه المرة: "هل كان علينا أن نقدم هذا كله؟"