شبكة قدس الإخبارية

"دافوخ" لابن العشرين

رشا حرز الله

رام الله - قُدس الإخبارية: مسندا ظهره إلى سور إحدى البنايات القريبة من منزله، متهاوية قواه، تروح عيناه وتجيء كلما تحركت أقدام أطفال الجيران، كانوا يركضون وراء كرة، قال محمد زيادة: "مش هاممني ولا إشي لإني عارف إني رح أرجع متل ما كنت، أنا ما بلعب مش لإنه إيدي ورجلي بوجعوني، خايف من ضربة الفطبول تيجي على راسي".

صافحت يده اليسرى بينما اليمنى لا تستقيم، يبقيها مثنية على خاصرته، وعلى أول عتبة من درج المنزل، قال محمد :"هاتي ايدك"، ففعلت ظنا أنه يطلب العون للصعود، لكنه سرعان ما رفعها إلى الناحية اليسرى من رأسه أعلى الجبين، وضغط برفق بأصابعه فوق أصابعي، رأسه طريّ كطفل ولد للتو، "كسروا جمجمتي".

وصلنا الصالة التي بدت خالية تماما من الأثاث باستثناء طاولة خشبية توسطتها، وفي زاوية أخرى من الغرفة صورة لمحمد تجمعه بمدير مدرسته في الثانوية العامة بثوب التخرج، ودرعان أحدهما تقديري والآخر يحمل تهنئة بالشفاء.

"لما حكالي الدكتور ما تتوقعي يرجع متل ما كان، حكيتله هو بتنفس، حكالي اه، حكيتله الحمد لله ما بدي غير هيك، أولها ما كان يحس برجله بعدين الدكتور أعطانا أمل". قالت والدته مستغلة فترة استأذن فيها محمد، الذي عاد بعد خمس دقائق يراجع تقاريره الطبية، جلس، ووضع بعضها على رجله اليمنى، والجزء الآخر على طرف الطاولة.

"أنا أول واحد اكتشفت وجودهم، كنت بينهم وما بنفع أهرب، مسكوني، وصرت أصرخ، وأحكي للناس ابعدوا، وأصرخ بأعلى صوت"، قال محمد، بينما كانت أمه تواري دمعتها، لاحظ محمد ذلك، وانحنى حتى تلاقت عيناه بعينيها مباشرة: "يما ليش بتعيطي، هيني عايش ما متت".

أطباء محمد قالوا إنه ربما لا يستطيع الوقوف على قدميه من جديد، الآن لا تمر ساعة إلا ويغادر المنزل، يقضي جل وقته متجولا في بلدته بيتللو شمال غرب رام الله، أو في محله لبيع الأدوات الكهربائية.

حل الصمت من جديد، لا صوت سوى طرقات فناجين القهوة بالصحون، كسرتها ثلاث طرقات على الباب، كانت امرأة بشال أبيض وثوب أزرق، قال محمد إنها "إحدى الجارات التي لا تنقطع كغيرها من أهالي بيتللو عن السؤال عني".

سألته المرأة كيف حالك يا محمد، ولأن نطقه السليم بات عسيرا، أومأ لها بيده وبصوت منخفض "الله يخليكي خالتي أحسن"، فهو يحتاج وقتا مضاعفا عن ذي قبل لتجميع الحروف وتركيبها على شكل جملة، كما بات لا يميز بين الكلمات ذات الحروف المتشابهة كـ"محرمة" و"مروحة".

ضرب محمد على ركبته بخفة كمن استيقظ لتوه من لحظة شرود، "مش أنا نسيت أسعار البضاعة الي عندي في المحل، لما بدي أبيع باجي عند إمي بسألها عن السعر، ونسيت كمان كيف الصلاة"، أخفض رأسه أرضا مبتسما معدلا جلسته، وأردف: "بس يعني هيني بتذكر شوي شوي، لإني باخد علاج طبيعي، ويا ريت أرجع ألعب".

تتغير تعابير وجه محمد كلما مرت كرة القدم في حديثنا، يظهر حماسا شديدا حين يتحدث عن أهدافه التي سددها في مرمى الخصم، "كان عندي محل وما كان يجيني فرصة ألعب كثير، وهس مش هاممني ولا اشي لإني عارف رح أرجع لطبيعتي، لإنو الي عنده قدرة يمشي ويوقف بقدر يلعب"، قال.

في السابع من (تشرين الثاني/ أكتوبر) العام المنصرم، غادر محمد منزله، متوجها إلى مدينة رام الله لجلب ما ينقص محله من أدوات كهربائية، حيث تصادف وجوده مع اندلاع مواجهات على حاجز بيت إيل العسكري شمال مدينة البيرة.

اندس مستعربون بين الشبان وهاجموهم، تمكنوا من محمد واثنين آخرين، ضربوه بآلات حادة على رأسه، ومن ثم أطلقوا عليه رصاصة، أدت لإصابته بشلل نصفي، ومشاكل إدراكية ونطقية، استدعت إجراء عمليات جراحية لإنقاذ حياته.

 محمد على موعد مع عملية جراحية أخرى لزراعة عظم جمجمة داخل رأسه آذار المقبل، هذه المرة ستجرى له في مستشفى الأردن، حيث أرسل أوراقه للمستشفى، أملا بأن يعود لبلدته يمارس هوايته في كرة القدم.

أحد الأطباء بعد الاطلاع على التقارير الخاصة بوضع محمد الصحي، قال إنه: "قد يعود للعب لكن ذلك يحتاج معجزة".

*هذا التقرير نشر أولا على وكالة "وفا"