شبكة قدس الإخبارية

أكبر مُعمِّرة في مخيم قلنديا.. تروي نكبة ساريس

شذى حمّاد

القدس المحتلة - قُدس الإخبارية: "احنا السريسيات دقة بدقة، نطيح الخيال عن ظهر الفرس"، تغني حليمة وهي تلف سيجارتها على عتبة منزلها في مخيم قلنديا، ثم تلعق طرفها لتثبتها قبل أن تشعل بها النار، مستذكرة حين وقفت غاضبة تطلب بارودة تنضم بها إلى صفوف الثوار، كيف لا وقد اشتهرت في قريتها أن ما تملكه من قوة يساوي قوة أربعة رجال. ولا تزال حليمة تتباهى بذلك رغم تخطيها عتبة الـ (90 عامًا) لتصبح أكبر المعمرين في المخيم.

على كل لسان بات خبر مجزرة دير ياسين، كما أخبار وإشاعات المجازر التي ارتكبتها "العصابات الصهيونية" التي وصلت لأهالي قرية ساريس الواقعة شمال غرب القدس، تسلل الخوف لقلوب الجميع، ولم يعد هناك من هو قادر على إخفائه، فاتخذ القرار الجماعي بضرورة مغادرة القرية سريعًا.

تروي حليمة محمد حمد أن أهالي إحدى البلدات القريبة، نصحوا أهالي بلدتنا برفع الأعلام البيضاء والبقاء في المنازل، إلا أن "الساريسين" وفي سنين مقاومتهم الانتداب البريطاني ثم تسلل العصابات الصهيونية لم يرفعوا الراية البيضاء قط، فكيف لهم ذلك الآن؟

خرج أهالي ساريس في مجموعات دون أن يحملوا معهم أيَّ شيء "لا ملابس، لا غذاء، ولا مقتنيات ثمينة أو وثائق هامّة"، اعتقدوا أنها "حرب عابرة".. يومين ويعودون لبيوتهم "لم نأخذ مفتاح المنزل حتى، ولم نغلق الباب، اعتقدنا أننا سنعود فورا" تقول حليمة.

أربعة مسنين لم يستطيعوا مكابدة ما اعتبروه حينها بالسفر، فقرروا البقاء في القرية التي اقتحمتها العصابات الصهيونية لتجد المسنين الأربعة - من بينهم عبد الفتاح عم حليمة - وحدهم في القرية، وتتفنن في تعذيبهم وقتلهم، "اليهود غيلان ومتوحشين، دخلوا بأعداد كبيرة جدا، وقتلوا الكثير منا"، وتضيف حليمة أن الفلسطينيين ومن ضمنهم أهالي ساريس طالبوا الجيوش العربية بتزويدهم بالأسلحة للدفاع عن قراهم، إلا أنه لم يكن هناك أسلحة حقيقية.

ساريس جنة الله على الأرض كانت، تربة خصبة ومناخ متوسط بين الجبلي والساحلي لوقوعها بين مدينتي القدس واللد، مزروعة بأشجار الزيتون والتين والعنب والخوخ والتفاح، إضافة لحقول القمح والشعير. تروي حلمة أنها كانت تطل من نافذتها وتقطف التفاح المتدلي عن الشجرة المزروعة قرب منزلهم، مشيرة إلى أن أراضي ساريس الخصبة والمعمرة كانت تمتد حتى قرية محسير وخربة بيت سيسين - التي أصبحت جزءًا من القرية - وما يجاورها من أحراش.

وثائق الطابو بأراضي ومنازل ساريس والتي تعود للحكم العثماني ما زالت تحتفظ بها تركيا، إلا أن ذلك لم يشفع لأهاليها الذين نقلوا تحت تهديد السلاح بعيدا عنها، وعاد بعضهم ليجد كل المنازل ركام "بعض العائلات أنهت بناء منازلها قبل التهجير بأيام وكانت تستعد للعيش فيها، إلا أنهم هجروا من ساريس".

منزل محمد حسين والد حليمة، المنزل الوحيد الذي ما زال قائمًا في القرية حتى اليوم، حيث يستغله أحد المستوطنين في التخزين، تقول حليمة مفتخرة، "منزلنا الوحيد في ساريس الذي ما زال موجودًا، إن لم أعُد له أنا، فسيعود أبنائي وأحفادي إليه".

سبعة أعوام كان عمر مصطفى محمود - نجل زوج حليمة - حين خرج من ساريس، إلا أن ما شاهده ما يزال عالقًا بذكراته، وما تزال دموعه تنهمر خلف نظارته، كلما تذكرها.

يقول مصطفى: جاء اليهود من قبانية عرتوف القريبة وبدؤوا إطلاق النار اتجاهنا، وكنا قد سمعنا لما دار في دير ياسين، فهربنا حفاظا على حياتنا ونسائنا"، أهالي القرية قطعوا طرقًا طويلة هربًا من رصاص العصابات الصهيونية، فيبين مصطفى أنهم توجهوا إلى قرية صرعة ثم أشوع ثم إلى دير الجمال ثم علار، إلى أن وصلوا وادي الجوز.

وأضاف أنه وبعد أسبوع على نومهم تحت أشجار وداي الجوز تم نقلهم بالحافلات إلى بير نبالا حيث عاشوا سبع سنوات قبل أن يتم نقلهم مجددًا إلى مخيم قلنديا.

"لو مسكونا اليهود لعملوا فينا أكثر من دير ياسين". لافتًا إلى أن  ساريس وبيت محسير والعمور وكشلة تقعان في محيط وادي علي، الوادي الذي اشتهر بتنفيذ الثوار فيه كمائن أودت بخسائر كبيرة في جنود الانتداب البريطاني عام 1935 و1936.

بعد سنوات من التهجير استطاع مصطفى ووالده العودة لزيارة ساريس، يروي مصطفى أن الوالد بعد رؤيته البيوت المدمرة والحال الذي باتت عليه ساريس أخذ يلف السيجارة تلو الأخرى ويبكي، ليتوفى بعد ذلك بأشهر حزنًا على قريته المدمرة.

يقول مصطفى، "لم نعرف فيها شيء، كل المنازل مهدمه ما عدا منزل محمد حسين والقبور التي ما زالت شواهدها كما هي"، مصطفى ركض تجاه والده الذي جلس مستظلا تحت إحدى الشجرات يبكي "هل أريك قبر سيدي عبد؟ إنه هناك المحاط بالحجارة الكبيرة".

مع كل ذكرى يرويها مصطفى عن ساريس تتدحرج الدمعات خلف نظارته، يمسحها سريعًا إلا أنها تباغته مرة أخرى وتسقط، "لو يقول لي الآن عُد إلى ساريس، والله لأترك كل ما في الدنيا، وأرجع لبلدي ووطني".

المصدر: شبكة هنا القدس للإعلام المجتمعي

#النكبة