شبكة قدس الإخبارية

في ذكرى وديع حداد: لنلاحق العدو في كل مكان

m74Kn
أحمد الطناني

لم يَكُنْ وديع حداد قائداً عاديّاً، ولَم يَأتِ في مرحلة عادية. كان أبو هاني صاحب البصمات الأهم في اللحظة الأكثر مركزية للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، إذ ساهَمَ فِعل وديع الذي لو نُوقِش بصوت مرتفع في أي محفل لَعُدَّ ضرباً من الجنون، أن تتحدى العالَم كلَّه لتقول «أنا فلسطيني. أنا موجود»، لكنَّ وديعاً أدرَكَ مبكراً أنه ليس المطلوب من الثائر أن يكُون «واقعياً»، ولا أن ينشغل كثيراً بحسابات الربح والخسارة، بل إن لدى الثائر هدفاً استراتيجياً، هو فلسطين، كل فلسطين، من نهرها إلى بحرها، وللوصول إليها يجب أن يضج العالَم باسم فلسطين، وألَّا يَأخذ هذا الاحتلالُ فرصةً ليتحول إلى مكوِّن طبيعي في العالَم، فهذا كيان طارئ محتل وقاتِل، ولن ينعم بدقيقة من الأمن والراحة في أي مكان، لا هو ولا داعموه وحلفاؤه.

ضرباتُ «المجالِ الخارجيِّ» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بقيادة وديع حداد، إلى جانب نوعيتها الأمنية واحترافيتها الكبيرة ضمن تصنيفات «العمليات الخاصة» التي حَجَزَتْ مكانَها في التاريخ من بين العمليات الأكثر نوعية، حَمَلَتْ في الوقتِ ذاتِه قيمتَها الإنسانيةَ بتحويل العمليات النضالية إلى منبر لإيصال صوت فلسطين لكل العالَم عبر سفراء تضع «الجبهة الشعبية» طوابع بريدها وختمها الفلسطيني على جوازات سفرهم، ليَحملوا اسمَ فلسطين إلى دولهم، في هجوم استَهدَف الوعيَ الجمعيَّ للعالَم، وعَكَسَ للعالَم أجمَع ماهيةَ نوعيةِ الثوارِ الذين يَحملون قضيةَ فلسطين، أنهم ثوار يَحملون وعيَهم وموقفَهم السياسيَّ على فوهة بنادقهم، وبوصلتهم إلى فلسطين.

ما مثَّلتْه جرأةُ وديع وإبداعُه وإقدامُه اللامحدود كان الوصفةَ السحريةَ التي احتاجها شعبنا الفلسطيني، والمكملَ الأمثلَ لعقلية جورج حبش السياسية والثورية، والتنظيرَ المتينَ المتماسكَ والمبدئيَّ الذي قدَّمته «الجبهة» مع انطلاقتها، ليُشكِّل الثنائيُّ رأسَ الحربةِ التي حوَّلت شعبَنا الفلسطينيَّ مِن مُهجَّرين ومُشتَّتين، إلى ثوار يطاردون العدو في كل مكان في العالم.

نَجَحَ وديع حداد في تشكيل عامِل جذبٍ واستثمارٍ أمثَل للثوار في العالَم، وشكَّل اسمُه «الماركة» الجاذبَ الأبرزَ لكل ثائر حالِم يَطمح بأن يَترك بصمتَه في هذا العالَم الظالِم مُختلِّ القوى والمعايير، فكان «المجال الخارجي» بوصلةً للعديد من الثوار من مختلف الجنسيات، الذين نَجَحَ غسان كنفاني في تعبئتهم بأهمية القضية الفلسطينية، وعَدُّوها قضيتَهم المركزيةَ وقدَّموا في سبيل فكرتِها وفكرةِ «الجبهةِ الشعبيةِ» التضحيات. إذ تقدَّم فدائيو «الجيش الأحمر» الياباني، و«الجيش الأحمر» الألماني، والفدائي مظفر الإيراني، وكارلوس الفنزويلي، وباتريك أرغويلو النيكاراغوي، والعديد من الأسماء من جنسيات مختلفة، الذين قدَّموا أرواحَهم وأعمارَهم وفاءً للفكرة تحت قيادة وديع والحكيم.

اليوم، بعد أكثر من 45 عاماً على رحيل رائدِ «المجال الخارجي»، وبطلِ ملاحَقة العدو في كل مكان، وصاحبِ الشكل النضالي الذي حاول العديدُ توجيهَ سهامهم المسمومة لنقدِه، يبرز التساؤل التاريخي الأهم: هل كانت الثورة الفلسطينية لتصل إلى كل المحافل الدولية من دون الصخب الذي أحدثته عمليات المجال الخارجي في «الجبهة الشعبية» في كل أرجاء العالم، ومن دون تحويل المئات إلى سفراء للشعب الفلسطيني وقضيته في دولهم؟

ليأخذنا التساؤل إلى ما بعده، ألا يجب على كل قوى الشعب الفلسطيني إعادة النظر في فلسفة العمل الخارجي، لا سيَّما وسط السلوك الإجرامي الصهيوني المتصاعد الذي لا يتوانى عن استهداف مناضِلِي شعبنا الفلسطيني وداعِمِيه في كل مكان في العالَم، عبر عمليات الاغتيال أو الاختطاف أو الاستهداف الممنهج بهدف الترحيل أو الاعتقال في الدول المضيفة؟ ألا يضع هذا التحدي قوى المقاومة أمام مسؤولية مواجَهة العمل الخارجي بالعمل الخارجي، وإن كان بتكتيكات وأساليب مختلفة تُشتَقُّ من واقع التطورات العالمية الحالية؟

ليس المطلوب من هذا التساؤلِ العودة إلى العمليات ذاتها التي نفَّذها وديع ورفاقه، فتلك كانت لها مبرراتها ووقتها واللحظة التاريخية المواتية لتنفيذها، بل إن المطلوب العودة إلى طريقة تفكير وديع حداد الإبداعية التي لا تَعرف حدوداً، والتي تَرى أنه لا وجود للمستحيل، فالمستحيل صعب لكنه ممكن، وهو ما يتطلب ألَّا تضع قيادة المقاوَمة الفلسطينية حدوداً لعنان تفكيرها في اشتقاق أساليب وأدوات عمل تُسهم في توسيع حلقات ودوائر الاشتباك وملاحَقة الاحتلال في كل مكان. فهذا العدو لن يَفهم سوى لغة القوة، القوة التي تهدِّد مصالحَه تهديداً جدياً، ليس داخل فلسطين المحتلة فقط، بل في كل مكان في العالَم، ومن جانب آخَر ستكون كلُّ الساحات ساحاتٍ لتصعيد الاشتباك في فلسطين المحتلة، ويجب ألَّا تكون عملية «مجدو» حدثاً منفصلاً، بل بدايةً لفعل نضالي متصل يعيد الدور الفاعل للاجئي شعبنا وحلفائه في دول الطوق في معادَلة المواجَهة.

في ذكرى وديع حداد، القائد الذي خلَّدَه فِعلُه وإقدامُه وجرأتُه وموقفُه الثابت، الدعوة مفتوحة لأن نكون ثواراً أكثر في التفكير، وأجرأ في الطرح، وأقوى في التنفيذ، وأن نواجِه العدو في كل ساحات فِعلِه، وأن يكون المثل بالمثل، وليعلم الاحتلال أن تدشينه معادلاتِ الملاحَقة لرموز المقاومة واستهدافهم في أي مكان في العالَم، سيُقابَل بالمثل، وسترد المقاومة في أي مكان في العالَم، فإن لم يَجد العدوُّ رادعاً وخطوطاً حمراءَ تواجِه إجرامَه، لن يتوانى عن الإيغال في دماء شعبِنا ومقاوِميه.

#وديع حداد