شبكة قدس الإخبارية

تامر الكيلاني.. قصة جريح وأسير ومطارد وشهيد أرق جيش الاحتلال

تامر-الكيلاني-1
يحيى موسى

فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: هدأت مخاوفها بعدما سمعت صوته أثناء اتصالٍ هاتفي، تجتاحها رجفة قلق تحولت إلى سؤالٍ وجهته إليه: "تامر، حترجع على الدار!؟"، لم يعطها ما يبرد قلبها لكنه طلب منها التضرع إلى الله: "قولي يارب، واللي مع الله، عمره ما بنساه"، هذه المرة أعطاها تعليمات مختلفة عن كل مرة: "دير بالك على الأولاد"، كانت الساعة تشير إلى الواحدة وخمس عشرة دقيقة، فجر الأحد، 23 أكتوبر/ تشرين أول 2022.

تحرك صوته بسرعة، يطلب إنهاء المكالمة: "شيماء، برجعلك بعد دقيقتين"، لم تقطع الاتصال قبل أن تدعو له: "كلامك مخوفني شوي، بس ربنا ميحرمنيش منك"، مسحت دموعها خلسةً، التي لم يَرَ فيها توسلات عينيها، تقدمت الساعة بضع دقائق، وتوقفت عند الواحدة وواحد وعشرين دقيقة، صوت انفجار يهز مدينة نابلس، أحدث أيضًا هزات متتالية داخل قلبها، تخاطر إليها خيال تامر بكفن، وتخايل وصورته في السماء.

استنجدت بالهاتف المحمول ليخرجها من قلقها ويكسر صوته تلك الصورة، اتصلت به عدة مرات لكن دون جدوى،  أرسلت له رسائل، وبعثت له رسالةً صوتيةً في أكثر شيء يحبه: "يامن ووتين اشتاقولك، رد عليهم"، أيضًا لم تسمع صوته، فقادها قلبها إلى المستشفى، وهناك تقابلت مع شقيقها، ووقفت أمام الحقيقة التي لم يخفها: "تامر عند رب العالمين"، صرختْ وهي تعلم الإجابة: "يعني شهيد!؟".

تامر الكيلاني 33 عامًا، يسكن بمنطقة جبل "فطاير" بنابلس، أب لطفلين: "يامن" عام ونصف، و"وتين" (ثلاثة أشهر)، اعتقله الاحتلال عدة مرات بلغت في مجموعها  ثماني سنوات، لم تحيده سنوات الاعتقال عن ساحة المعركة، فعاد إلى الاحتلال بـ "عرين أسود" وصلت مسامعها وأثرها إلى قلب دولة الاحتلال وقضت مضاجع مستوطنيه في نابلس، حتى باتوا يحسبون لخطواتهم ألف حساب، تأثر باستشهاد إبراهيم النابلسي وكانت نواة لانضمامه لمجموعة "عرين الأسود" الذي أصبح أبرز قادتها.

التحق بأمن الرئاسة بالسلطة الفلسطينية، وحصل على عدة دورات عسكرية، منها دورة قنص، ومكافحة الإرهاب، وعلى دورتي تفكيك وتصنيع متفجرات، ودورة حراسة شخصيات، لكنه قدم استقالته لعدم "التقاء الأفكار" بينهم وبينه.

مطاردة قاسية

" فترة مطاردته التي استمرت سبعين يومًا، مرت صعبة علينا، كنت لا أنام الليل وأنتظر الصباح كي أتأكد أن تأمر لا زال على قيد الحياة، يتنفس، ولا زال موجودًا في حياتي، أيضًا هو لم يكن ينام إلا الساعة العاشرة صباحًا" يلسع جرح الفقد صوت زوجته شيماء في حديثها مع "شبكة قدس" تروي قصة مطارد وأسير ومصاب وشهيد أرق جيش الاحتلال فبكته حارة "الياسمينة" في نابلس.

خلال المطاردة لم تحظ زوجته وطفلاه بأكثر من زيارتين له كل أسبوع داخل البلدة القديمة، تقفز صورته أمامها: "كنت أرى الدموع بعينيه عندما يرى طفليه، يشتم رائحتهما من شدة الشوق وهو يضمهما إليه يمعن النظر بملامحهما، يتحدث مع طفلته وتين ابنة الشهور الثلاثة كأنها كبيرة، يقول لها وهو يحملها بين ذراعيها: "أنت أغلى شيء بعمري، بس تكبري راح أعملك عيد ميلاد كبير" يوصيني أن نهتم ببعضنا، ويوصي يامن علينا".

كان استشهاد تامر صادمًا لشيماء وهي شقيقة الشهيد محمد مرشود، لكنه لم يكن مفاجئًا فمنذ بداية الارتباط خيرها، وكان واضحًا صريحًا، يطل صوته على ذاكرتها، الدموع تخنق صوتها: "قال أثناء الخطبة: "ما بدي أظلمك معي بلاش بيوم تفقديني، أنا ما راح أغير الطريق"، يخيرني كي أعدل عن قرار الارتباط إن  أردت، وكرر السؤال، لكني دائمًا أرد عليه: ما راح أسيبك، كرمال أنك مقاوم، ثوري، ونحن في عائلتنا أخ شهيد وآخر أسير".

رغم اختيارها الطريق بإرادتها إلا أن لحظة ضعفها، وخوفها من الفقد كانت أكبر من القبول بالأمر الواقع، "كنت أعبر له  عن خوفي أن أفقده كما فقدت أخي (..) استمر زواجنا لمدة عامين، وقبلها ثمانية أشهر خطوبة، وكأنني عشت معه الدهر كاملاً، وسأعمل بوصيته بتربية أولاده، حتى نلتقي في الآخرة".

الاحتلال عرف شخصية تامر، شجاع، صلب، مقاتل شرس لا يعرف الخوف، لكن زوجته عرفته طيبًا زوجًا حنونًا عاطفيًا، لا يغفل عن مناسباتهما الخاصة حتى وهو مطارد، لم يخلُ حديثها من موقف جميل لا تنساه مر بين أحزان فقدها: "ذهبنا رحلة في الأردن، وكنت سعيدة جدا، يومها قال لي: لو ما كنتش بحياتك، بيوم من الأيام، بدي تكوني هيك مبسوطة".

مشهد مختلف

الجميع رأى مشهد اغتيال تامر بانفجار عبوة على دراجة نارية مركونة في الطريق، لكن والده رآه بشكلٍ مختلف عن الآخرين، يقول لـ"شبكة قدس": "هم لم يستطيعوا النيل منه خلال الاشتباكات، ولم تستطع مخابرات الاحتلال الوصول إليه، فقرروا الغدر والاغتيال، علما أن هذه الدراجة استمرت مركونة لمدة يومين في الطريق، ومر من أمامها مطاردون ومطلوبون، لكن عندما مر تامر انفجرت، ويبدو أنها كانت مربوطة برقم هاتفه".

لحظة الانفجار كان الكيلاني الأب، يتواجد في ورشة عمله بمنطقة الناصرة بالداخل المحتل، استغرب من اتصال تلقاه من حلاق الحارة حمدي شرف الذي استشهد في اليوم التالي وكان الاتصال فجرًا، بادر المتصل بالسؤال: "أبو فواز، وين أنت!؟"، أثار السؤال هواجس خوفه: "صاير إشي؟"، لم يعطه حمدي كل الإجابة: "تامر، أصيب"، وتهرب من أسئلة والده عن مكان الإصابة وخطورتها، فاتصل بشقيقه الذي وضعه أمام الخبر اليقين: "تامر استشهد".

طوال مسيره من الناصرة إلى نابلس، مرَّت عليه مواقف كثيرة جمعته بابنه، لكن تفاصيل آخر مكالمة قبل استشهاده بليلة، تحضره الآن كما حضرته خلال مسيرة عودته: "اتصل بي الساعة الخامسة والنصف مساءً، تحدثنا لثمان دقائق، قال لي: "طمني عنك، صحتك، ضلك حاكيني، تنسانيش"، وهو كل يوم يتصل بي، أو يبعث رسالة هاتفية، أو تسجيلا صوتيا، وفي كلها يقول لي: "كيف حالك يابا، طمني عليك".

الحكاية من بدايتها

أصيب تامر ثلاث مرات، أول مرة أصيب لم يكن يتجاوز حينها 16 عامًا، يتذكر والده الحدث: "يومها حدثت مواجهات أثناء تشييع شهيد ودفنه بالمقبرة الغربية، وكان يرمي حجارة على قوات  الاحتلال، كان يبعد عني قليلاً، فأطلقوا عليه النار وأصابت جانبه أسفل البطن".

نقل الأهالي ابنه إلى المستشفى، تلتصق التفاصيل بذاكرته "نزلت وركضت لمسافة طويلة لألحق بسيارة الإسعاف، يومها مكث بالمشفى 14 يومًا".

بعد فترة وجيزة لم يتعافَ من أثر إصابته كثيرًا، حتى قام الاحتلال باعتقاله، لم يقفز والده عن أول مرة اقتحمت فيها قوات الاحتلال منزله، "اقتحموا البيت، وقاموا بتفتيشه، عاثوا بالدار خرابًا، كانوا قوة كبيرة من جيش الاحتلال، يومها احتجزونا بغرفة داخل البيت لمدة نصف ساعة".

أمضى تامر في اعتقاله الأول عامًا ونصف في سجون الاحتلال، لكنه خرج من السجن بشخصية أخرى غير التي عرفها والده: "خرج إنسانا مثقفا، لديه فهم وفكر ثوري".

لم يمضِ على التحاقه بالسلطة أكثر من عام ونصف، حتى جاء لوالده يعلمه بقرار الانفصال، مشهد وقوفه أمامه آنذاك يطل عليه من الذاكرة: "لم تأتِ أفكاره على أفكارهم (السلطة)، قال لي: "هذا ليس طريقي"، رفض الاستمرار بالعمل في أمن الرئاسة، يومها حدثت مشكلة بينه وبين الضابط لم يخبرني بتفاصيلها".

عمل بالقصارة، والديكور، والدهان، والمخابز، لكنه كان على موعد مع اعتقاله الثاني لمدة أربعة أعوام في الفترة ما بين (2015 – 2019)، وورد في لائحة اتهام الاحتلال له، اتهامه بتشكيل خلايا مقاومة، تصنيع متفجرات، إطلاق نار على حاجز "حوارة" جنوب نابلس وإحراق برج الحاجز بإلقاء زجاجات "المولوتوف".

لم يقطع والده زيارته خلال مدة أسره، لكنه لم ينس هذه الزيارة "بعد ثلاثة أشهر من آخر زيارة له، ذهبت من نابلس لبئر السبع في الحافلة، وبعد أربع ساعات من المسير كانت الأجواء باردة جدًا، لم يسمحوا لنا بزيارته، فكان معاقبًا لأنه ضرب سجانًا وعزل انفراديا لمدة أسبوعين وحرمونا زيارته".

بعد خروجه من الأسر، جلس الأب مع ابنه، تطفو تفاصيل الجلسة على حديثه لنا: "قلت له: يابا، بكفي، أديت الأمانة، نريد أن نعيش في هداة بال، ونزوجك، وكنت قد كتبتُ كتابه وهو بالأسر، ورزق بطفليه، لكن جرى اعتقاله لمدة عام وثلاثة أشهر وأفرج عنه في مارس/ آذار 2022.

لم يقبل الذل

خلت هذه المرة لائحة الاتهام من أي تهمة، فكان اعتقال "حركشة" حسب وصف تامر لوالده، لكن والده تفاجأ قبل أربعة أشهر أن ابنه مطلوب للاحتلال، ومن ضمن اتهامات الاحتلال له، إرسال فدائي لمدينة يافا بسلاح كارلو، يتدفق الحزن بين كلمات الكيلاني الأب: "اتصلت به يومها فلم يرد، نزلت على البلدة القديمة ورأيته، سألته: ماذا أسمع عنك!؟، فصارحني: "هذه طريق مكتوب علينا، لن أسلم نفسي، طريق الجهاد في سبيل الله مكتوب علينا، فقط أرضَ عني".

 يعلق على رد ابنه، وهو يتحدث بصوت ينهشه الفقد: "عرفت رجلاً، شرسًا على الاحتلال والمستوطنين في منطقة "قبر يوسف" لكني لم أره إلا الابن المطيع الحنون، دائمًا يتصل بي أو يرسل رسالة هاتفية كوني أعمل في الداخل المحتل وأغيب نحو 20 يومًا متواصلاً، ودائمًا يكرر جملة: "بدك شيء يا تاج راسي".

تأكد أن ابنه يسير في طريق ليست له عودة، وزاد تضييق الاحتلال عليه،  ومع تشكيل المجموعة التي كان تامر أحد قادتها، وضع على مجهر الاغتيال، فغاب عن البيت 70 يومًا من المطاردة تحصن في حارة "الياسمينة"، وأمام شوق العائلة كانت تزوره في زقاق الحارة.

 تغرس تلك المشاهد جذورها في ذاكرته: "كنت أراه في شوارع الحارة لدقائق معدودة، ويبتسم ويقول لنا: "خلص وقتكم"، وكان دائم التواجد برفقة الشهيد وديع الحوح، فإضافة لأنهما صديقا طفولة، كانت والدة وديع نجل ابنة عمي، فجمعهما رابط أسري، قبل ليلة من استشهاد وديع جاءني على بيت الأجر أتذكر كلماته التي واساني بها، وقال: "كن قويًا، كلنا تامر، إن شاء الله سنثأر له"، يعلق بعدما ألقى على روحهما السلام: "لم يتحملا البعد عن بعضهما".

أصيب تامر ثلاث مرات في واحدة منها أصابت رقبته رصاصة معدنية مغلفة بالمطاط، على وصف والده "فقد أوفى بكل العهود" فأصيب، واعتقل، وتمت مطاردته، حتى نال الشهادة، وهو صاحب "صورة التحدي" التي التقطها مصور على حاجز حوارة، لفتى يحمل علم فلسطين أمام سبعة جنود، كان تامر صاحب الصورة، كان يشارك بالوقفات التضامنية مع أهالي الأسرى والشهداء، ويوزع طرودًا غذائية لهم، يردف والده: "لم يحضر شيئا لنا، وكان يقول: نحن نأكل ونشرب، هناك من هم أولى منا" حتى آخر لحظاته ذهب ووزع مساعدة لأم جريح موجود بالمستشفى".

يتحدث عن صداقته مع وديع: "كانا صديقين حتى بالشهادة، تحديا بعضهما من يستشهد أولاً، الاحتلال طارد وديع قبل تامر، وابني كان مقاتلا مدربًا".

يعرفه الباعةُ في زقاق حارة الياسمينة بالبلدة القديمة بنابلس، شابٌ طويل القامة صاحبُ بسمةٍ لا تفارق وجهه، ينادونه بكنيته "أبو يامن" ما إن يمر بقربهم بلباسٍ مدني أو عسكري رفقة مقاتلي "عرين الأسود"، عفويٌ بتعامله مع محيطه وأصدقائه كان شرسًا على جنود الاحتلال، لم تثنه كثرة الاعتقالات ولا التهديدات المستمرة عن طريق المقاومة، فكان رافضًا خيار الاستسلام للاحتلال.

 بعدما ظن الاحتلال أن الصغار سينسون باستشهاد واعتقال قادة الانتفاضة، عاد الكيلاني وأبطالٌ أخر حفروا أسماءهم في قلوب الشعب الفلسطيني وأعادوا البوصلة نحو القدس في وقتٍ ركن فيه الاحتلال إلى "الهدوء الخادع" ليستيقظ من وهمه على رصاص الثوار الذين أحيوا أمجاد الانتفاضة من جديد

                                                                

#مقاومة #نابلس #عرين_الأسود #تامر_الكيلاني