شبكة قدس الإخبارية

أبناء وأشقاء الشهداء والأسرى.. بسلاح العلم انتصروا وتذوقوا حلاوة النجاح 

ابو عبيدة
يحيى موسى

فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: في دفء عائلي الجميع يلتف حولها ينتظر تذوق حلاوة النجاح بعد ثماني سنواتٍ من الفقد والفراق، غاب عن المشهد أحد أعمدتها قائد لواء رفح في كتائب القسام الشهيد رائد العطار، الأبُ الذي انتظر لحظة تفوق ابنته كثيرًا ليرى ثمرة تربيته أمامه، كومة مشاعر تغزو قلب ابنته "سجى"، توتر، خوف، قلق، أمل، ألم، كلها عاشتها بشكلٍ متزامن مع اقتراب العد التنازلي لإعلان النتائج، زادت دقاتها مع اقترابها من الأرقام العشرة الأخيرة "9، 10.. 3، 2، 1"، إلى أن دقت لحظة الصفر، وطرقت صوت رسالة هاتفية قلبها، قبل أن تقع عينها على المعدل بحصولها على 75.6% بالفرع العلمي.

كحال سجى تفوق أبناء الشهداء والأسرى وأشقاؤهم، تعالوا على جراحهم، وتغلبوا على آلام الفقد والحزن وإن لم تلتئم جراح قلوبهم، كانت الأنظار مسلطة عليهم أيضًا، الجميع ينتظر ماذا سيحصّل هؤلاء!؟، لم تكن مجرد علامات بل معركة سلاحهم فيها العلم،  لينتصروا مجددًا في معركةٍ أثبتوا فيها للاحتلال أن عجلة الحياة لم تتوقف عند لحظة استشهاد أحبائهم، وإن كانوا الغائبين جسدًا الحاضرين في قلوبهم لحظة استقبال النتائج.

"سجى العطار" عانقها والدها قبل الكُل

"التففنا نستمع للمؤتمر عبر الشاشة وفي أيدينا الهاتف، ننتظر نتيجة ابنتنا الحبيبة، المشاعر مختلطة، كنا نتمنى أن يكون والدها هو من يبشرنا وهو أول من يحتضن ابنته".. في هذه اللحظات تضاربت المشاعر لدى والدة سجى التي تكنى بـ "أم أيمن"، وهي تتحدث لـ "شبكة قدس" عن لحظة أصعبها تجدد شعور الفقد، وأجملها أنها متأكدة من النجاح، واثقة بقدرات ابنتها. 

انطلق صوت الفرح من قلبها تحرك المشهد مرة أخرى: "الفرحة الأولى بعد ثماني سنوات من الفقد، تمثل كل لحظة من هذه السنوات في تربيتي لسجى وأخوتها قصة حب، وقصة أم تحمل رسالتين، رسالة الأم التي تقود السفينة بمرتبة القبطان الغائب، هذه الفرحة نتمنى أن تتبعها سلسلة أفراح تعانق أبناءها ولا تفارق أعتابهم".

كانت النتيجة ثمرة رعاية وسهر، وتعب، واحتواء، وعناء، مطاردة، واهتمام،  وألم، ودموع، تعترف:  "رافقتني تلك المشاعر في كل لحظة تمنيت أن يكون قبطان سفينتي وعمود منزلي موجودا يحمل عني العبء،  ويخفف الحمل، فكانت نتيجة مفرحة مبشرة بشرنا بها والد سجى حين جاءها في الرؤيا وضمها قبل أن نتلقاها عبر الهاتف".

أنصتوا لما تقوله أم أيمن، من تجربة قاسية، فيها مسافة طويلة من الصبر رغم قسوة الرحيل، خصصتها للحديث عن زوجها : "هو شهيد وقائد، وإنسان حنون، يتمتع بكل معاني الإنسانية قبل معاني القيادة وهذا الفارق الكبير الذي يتمتع به زوجي الشهيد الإنسانية بكل معانيها الراقية ومواقفها البناءة والتي ولدت الحب لرائد في قلوب كل الشعب فما أن تذكر القائد أبا أيمن في أي مكان وأي محفل وأمام أي إنسان إلا وقال لك: أبو أيمن رجل بأمة وقائد لن تنجب مثله الأرحام".

كان العطار، يشعر أن رحيله قد يحدث في أي وقتٍ، وهو المطارد لجيش الاحتلال منذ تسعينات القرن الماضي حتى استشهاده واغتياله عام 2014، فهيأ زوجته لأن تكون أبا وأمًا لأبنائه، فكان فقده حافز نجاح، تعلمت منه العطاء والوفاء، "نشعر أن رائد قد يكون رحل جسدا لكن روحه المعطاءة  تقيم فينا جميعا زوجة وأبناءً، كان له حلم وطموح أن يكون أبناءه على دربه وهذا أكبر حافز لينجحوا ويكملوا المسيرة".

تالا صلاح انتصرت لروح شقيقيها الشهيدين

على كتابها المدرسي، كانت تالا صلاح كلما غلبها اليأس، تنظر إلى عبارةٍ كتبتها "ادرسي يا تالا عشان أخوكِ سعد" فتستمد طاقتها من شقيقها الذي استشهد قبل سنوات، تحمل على عاتقها إدخال الفرحة لقلوب عائلتها منذ استشهاد سعد، لكن وفي اليوم الثاني أثناء بدء خوض امتحانات الثانوية العامة، استشهد شقيقها يوسف في يونيو/ حزيران الماضي في الحي الشرقي بمدينة جنين بالضفة الغربية، فكانت على موعدٍ مع صدمة لم تتوقعها، انهارت معه أعمدة صبرها.

"استشهد يوسف قبل أن أمتحن في مادة الفيزياء، تجمع الناس في بيتنا، شعرت بالانكسار، حطمني استشهاده، فكتبت على فيسبوك: "أصبحت أخت شهيدين، وابنة جريح، وشقيقة أسير (أسامة)"، فوصل صوتي لوزارة التربية والتعليم التي قررت تأجيل امتحانها في وقت لاحق، لكن حقيقة من شجعني هو يوسف، قد يسأل الناس: كيف ذلك!؟ وهو شهيد، أقول، أنه منذ بداية العام وهو يقول لي: أدرسي لأن نهاية كل تعب هناك نجاح، وأن لا أستسلم حتى يفرح بنجاحي، وتشعر كل الحارة بفرحتنا" ترتب الأحداث في حديثها مع "شبكة قدس".

أصرَّت تالا على تقديم الامتحانات انتصارًا لروح شقيقها، فعدلت العبارة التي كتبتها على دفتر المذاكرة وكتبت "بدك تدرسي تالا، لعيون أخوك سعد ويوسف"، وكان ذلك دافعًا لها للنهوض، اتكأت على عصا الصبر، وعادت للدراسة، بينما كان المعزون يأتون لمنزلها للمواساة في ثاني أيام العزاء، كانت هي تخرج لتقديم الامتحانات، تجاهلت دموعها التي تساقطت على كتب الدراسة، أو حتى على ورقة الامتحان، فكان كلام يوسف يرافقها في كل لحظة ضعف فيمنحها قوة للنهوض من بين حطام الفقد، فلم تتحطم عزيمتها.

لكن لم يكن الأمر سهلاً: "كنت لا أريد أن يقول الناس إن أخت الشهيد استسلمت، كنت أدرس بمعاناة، الدموع كانت تبلل الكتب المدرسية، أذهب للامتحان وأنا لم أختم نصف المادة، رغم أني من النوع الذي يحب الدراسة وأنا مرتاحة نفسيًا، كنت أحارب بظروفٍ محزنةٍ جدًا، أخرج للامتحان في بيت الأجر، أعانني الله، وساندتني زميلاتي، ومعلماتي، وأناس لا أعرفهم، ودعم لمنشوري على فيسبوك".

نالت تالا أجر صبرهم وجدها واجتهادها، فلم يذهب الزرع هدرًا، وحصلت على معدل 92.7% بالفرع العلمي، وتلألأ اسمها، بين أسماء المتفوقين من ذوي الشهداء.

 أطلقت سراح فرحة يختبئ وراءها وجع الفقد: "كانت لحظات توتر وخائفة جدا، رغم أني احتسبت معدلي وتوقعت حصولي على 93%، ولم تكن النتيجة بعيدة عن التوقع، لكن أصعب المشاهد التي يمكن للإنسان عيشها هو تذكري لشقيقي يوسف لحظة استقبال النتيجة، استقبلتها من دون شخص كان يقول لي: بدي أفرح بنجاح وأخلي كل الحارة تشوف فرحتك".

جمعت قائمة الإهداء لديها ثلاثية النضال الفلسطيني "أهدي نجاحي لشقيقي الشهيد سعد، وشقيقي الشهيد يوسف، وأخي الأسير أسامة، وعمي الأسير والمحكوم مؤبدًا عبد الرحمن، ولوالدي الجريح ناصر، ولكل من ساندني، ومنحني القوة للاستمرار".

من تجربة كتبت فيها نجاحها من رحم الألم تترك كلامًا تهمسه في أذن من يمر بذات التجربة التي لا تتمنى أن يعيشها  غيرها: "فقدت شخصا كان سندي، عشت بمنزله، ودرست فيه، عرفت كيف يعيش ونمط حياته، بعض الناس يبكون لمجرد إكمال مادة يمكن أن تعوض، فكيف أنا التي كنت أقدم الامتحانات وأبكِ على شقيقٍ لن يعود!؟ وتفوقت".
 

"لنا يامين" استقبلت نتيجة التوجيهي بفرحة صامتة على قبر شقيقها "غيث"

في فلسطين يجدد الفرحُ أحيانًا حزنًا قديمًا أو يفتح جرحًا جديدًا، لحظاتٌ تختلط فيها المشاعر، يكون فيها الفرح ساكنًا، لا يتحرك، حتى وإن حاولوا الاختباء وراء ابتسامة.

على قبر شقيقها الشهيد غيث يامين (16 عاما) من نابلس، استقبلت شقيقته "لنا" نتيجة التوجيهي بفرحةٍ صامتة لا حركة فيها، ولا صوت، إلا صوت دموع سقطت من عينيها على قبره، لم يغب غيث عن مشهد نجاح شقيقته بابتسامته في صورةٍ وضعت بجوار قبره، تناثرت الورود فوقه وعلم فلسطين، كجزءٍ من الوفاء له، وتنفيذًا لوصيته بأن "تزوره العائلة"، فكانت لحظات غلبتهم فيها الدموع، تثبت العائلة أن ابنها الشهيد معها في كل خطوة ومناسبة.

في لحظةِ تأملٍ وتفكرٍ رسم غيث مخاوفه بدقةٍ، فكتبَ عن كل شيءٍ يخشاه، وعن الأماكن التي يحبها، يرتب لحياته القادمة، وهو يرى الأطفال يرحلون من حوله، أو بالأحرى باتوا هدفًا متنقلاً لجيش الاحتلال، وتوقع أن يكون هدفهم التالي. 

ترك الطفل غيث يامين (16 عامًا) لأهله وللأماكن التي سيفارقها أو سيلجأ إليها كلمات مؤثرة، فهو الذي أراد أن يمضي مسرعًا للقبر دون أن يمكث في ثلاجات الموتى، وأن يرحل مخضبًا ومسجًّى بدمائه ليشكو إلى الله ظالمًا يقتل أطفال فلسطين. قال في وصيته: "إذا مت فلا تضعوني في ثلاجة الموتى؛ لأنني لا أحب البرد، وأن يدفن بين الأطفال، وأن يأتوا أهله لزيارته"، حينما استشهد في 25 مايو/ أيار الماضي، خلال مواجهات بين الشبان وجيش الاحتلال في منطقة قبر "النبي يوسف" بنابلس، إثر إصابته برصاصة في رأسه.

دموع كثيرة لم تستطع حبسها أو منعها لحظة استقبال نتيجة الثانوية العامة رافقت صوتها وهي ترثيه أمام القبر "كان أخي غيث يقف معي خلال الفترة الأخيرة من التوجيهي، صحيح أنه أصغر مني، لكني كنت أشعر أنه أكبر وأفهم، يشجعني ويحضر لي بعض الهدايا أثناء دراستي، شعرتُ أنه يحضر لنجاحي أكثر مني، سواءً بالمفرقعات أو تجهيز حفل النجاح".

غصة الرحيل، لا زالت تسيطر على قلب والد غيث، يقول لـ "شبكة قدس": "فرحتنا ناقصة بغياب الداعم والسند لنا ولها غيث، كان يحضر لها أشياءً تحبها وهي تدرس، يتفقدها بالليل، يتصل بها، يسمع لها الدروس، وقبل استشهاده بأيام أعطاها نقوط الفرح وقال لها: "خبي نقوطك بلاش أصرفهم"، وأثناء عودته من العمل كان يتصل بها  ليعرف ماذا ينقصها من طلبات أو أغراض وعندما قرأت وصيته بعد استشهاده شعرت أن الأفعال كانت أفعال وداع، وقبل خروجه من المنزل لحظة استشهاده ابتسم لها وغادر كانت تدرس".

عندما استشهد كانت لنا تذهب قبل الامتحان وبعده إلى المقبرة، تفرغ مشاعرها لشقيقها وسندها، لم تتوقع أن يرحل في لحظاتٍ ينتظرها هو قبلها بفارغ الصبر، تمنت أن يفرحا معًا، في كل مرة كانت تبكي، ثم تذهب للامتحان وقد جفت دموعها على خدها، قدمت الامتحانات، وهي مكسورة القلب، لكن طيفه كان يعطيها شحنات إضافية للنجاح، استطاعت فيها اجتياز لحظات انكسارها وألمها.

"وجد" لم تتلقَ التهنئة من والدها بعد

لا يوجد أجمل من فرحة استقبال نتيجة الثانوية العامة بين أب وأم، كثيرون يتشوقون لهذه اللحظة الجميلة بدفئها العائلي، "وجد" ابنة الأسير اعتراف الريماوي من محافظة رام الله والمحكوم بالسجن ثلاث سنوات ونصف متبقي في حكمه تسعة أشهر، لم تحرم من لحظة وجود والدها لحظة تلقي نتيجتها بالثانوية العامة وحصولها على معدل 93.3% فقط، وإنما لم تستطع زيارته أو الاتصال بوالدها، لتسمع فرحته عبر طرف سماعة الهاتف الأخرى، وتمني النفس أن تكون علامة تفوقها قد وصلته عبر المذياع.

"عشت فرحة كبيرة، بالتأكيد هي ناقصة لعدم وجود أبي بقربي، هو الآخر كان ينتظر النتيجة بفارغ الصبر، الأمر المحزن أني تمنيت أن يتصل بي أو نزوره، لكن حريته باتت قريبة بالتأكيد سأزوره قريبا لأعرف كيف عاش فرحة نجاحي في السجن وماذا فعل؟ متشوقة لأعرف ذلك؟ ففرحته كانت دافعي للتفوق والسهر، والتعب والجد والاجتهاد؟، لكن سيخرج ويراني أدرس تخصص دكتور صيدلاني بجامعة بيرزيت ويزداد فخره بي" تنصت "شبكة قدس" لحديث وجد عن فرحة تفوقها.

قبعة ورداء تخرج أحمر، وابتسامة ممزوجة بنشوة الفرح والنجاح، يلتف حول عنقها وشاح ذهبي مختوم عليه شعار واسم "مدارس الأوائل" التي تخرجت من بين مقاعدها وفصولها، بهذه الصورة ودعت وجد المرحلة المدرسية لتنتقل إلى الحياة الجامعية، وإلى مرحلة جديدة من حياتها.

منعت وجد من زيارة والدها بحجة أزمة فيروس كورونا، وعندما سمح الاحتلال لعائلات الأسرى بزيارة ذويهم كانت تمتحن في الامتحان التجريبي، تقول: "لم أكن أستطيع الذهاب للزيارة خوفًا من تراكم المواد الدراسية، وكان هذا يؤثر علي كوني أتمنى رؤيته، لكنه كان يرسل تشجعيه لي مع أمي، وعندما كنت أزوره كان يسألني عن دراستي ويوصيني بأن أتفوق، وهذا ما منحني دافعا على المضي قدما نحو النجاح والتفوق وكان يقول لي: أنتِ قدها، وقبل اعتقاله كان يساعدني كثيرًا بالدراسة وحقيقة أنني تأسست من تحت يديه".

 

#أسرى #اعتقال #شهداء #التوجيهي #الثانوية_العامة