شبكة قدس الإخبارية

سجن أريحا

picture_akhbar_0012_300_0
وليد الهودلي

 

بداية لا يعني حديثي عن سجن أريحا أني أغضّ الطرف عن أي سجن أو مكان يعذب به فلسطيني فلسطينيا آخر، فكل تعذيب وامتهان لكرامة فلسطيني من قبل فلسطيني آخر هو اعتداء آثم ويجب أن يدان بكل أشكال الإدانة، وأن السكوت عن هذا الامر طامّة كبرى واختلال قيمي وهزيمة للروح وهوان ما بعده هوان. فقط مجرّد أن تتخيّل نفسك ولو للحظة واحدة أنّ ظروفا معينة جعلت منك سجينا في هذا السجن فما هو قولك حينئذ؟ وكم تتمنى من الناس ان يقفوا معك. ماذا لو ابنك أو أخ لك من أمك وابيك؟

من المفترض أن يكون الفلسطيني أبعد ما يكون عن الوقوع في هذه الكارثة ذلك بأنه ذاق الامّرين من الاحتلال ومازالت سياطه على ظهورنا ولم تذهب آثارها، من المفترض من الفلسطيني أن يكون الأرقى في العالم في احترام كرامة وحقوق الإنسان، لم ننس بعد ولم يمض زمن طويل على ممارسات الاحتلال العدوانية، لم ننس زنازينه وأقبية التحقيق التي كال لنا فيها كلّ صنوف العذاب (ومازال)، لم ننس الشبح والهزّ والضرب على أشد مناطق الجسد حساسية والما، لم ننس الانقضاض على البيوت الامنة بكل وحشيّة وتكسير محتوياتها وقلب سافلها عاليها وعاليها سافلها واختطاف أبنائها بكل قسوة وعنف ، لم ننس التنكيل المريع والقمع المتوحش لأسرانا في سجونهم (وما زال) .. ولا أريد أن أتعب قلوب أعزائي القرّاء أكثر من هذا، فالفلسطيني منذ بدايات الاحتلال إلى يومنا هذا وهو شاهد حيّ عل كلّ ممارساته العدوانية على الشعب الفلسطيني بكلّ أشكالها المقيتة. 

لماذا تنتقل طبائع الاستبداد من المستبدّ الى الضحيّة فتتقمّص بدورها شخصية المستبدّ وتتحوّل من الضحيّة الى الجلاد؟ رغم اعتقادي بأن الجلاد والمجلود هما ضحية لهذا الاحتلال البغيض الذي لعب لعبته الكبرى في حرف البوصلة وانهاك الفلسطيني بالفلسطيني في حالة داخلية لا يحسدنا عليها أحد.

سجن أريحا مثالا حيّا وقد حدّثنا من قضى فيه سنوات مأساته إذ يكفي مجرّد وجودك فيه عذابا نظرا لظروف الطقس فيه صيفا ودرجة حرارته الجنونية، عدا عن التعذيب من ضرب وشبح وحشر في زنازين ضيقة لا تصلح لوجود بشر فيها، هناك شهود كثر مرّوا في هذا السجن، الوجبة الأولى فيه من العذاب أسبوع من الشبح والضرب دون أي سؤال أو تحقيق، هي مقدمة لرواية البؤساء ثم بعد ذلك تدخل تفاصيل الرواية.   

لست في هذا المقال بهدف سكب الزيت على النار وإنما هي محاولة متواضعة للمساهة في معالجة الامر، بداية لا بدّ من توضيح خطورة هذا الوضع الكارثيّ الذي آلت اليه هذا الانتهاكات الصارخة لكرامة الانسان الفلسطيني، والامر لا يقتصر على ما يتركه التعذيب في الطرف المعذّب بفتح الذال، (وهذا كارثيّ بالطبع)، بل الكارثة ايضا على ما يتركه التعذيب في شخصية المعذّب بكسر الذال، أذكر أن قرار سلطات الاحتلا ل في منع التعذيب الجسدي في زنازين الاحتلال سنة 1999 ( باستثناء الحالات التي تسمّى قنبلة موقوتة) كان بسبب ما يتركه التعذيب من آثار نفسية على شخصية المحقق التي تجعله لا يحسن التعامل مع زوجته وأبنائه مما تتركه آثار التعذيب الذي يمارسه من بصمات عميقة على نفسيّته. 

من باب الحرص على الفلسطيني سواء كان ظالما أو مظلوما وإنقاذ ما يمكن إنقاذه لا بدّ وأن نؤكّد أن هذا التعذيب ينتج كوارث نفسية واجتماعية لا حدود لها على حياة الظالم، فلا يمكن أن نتصوّر أنّ هذا الجلاد خالي الوفاض من الضمير أو الإحساس الوطني والإنساني والديني، قد لا يشعر في مرحلة من مراحل حياته بألم الضمير تحت وقع التبرير وغسيل الدماغ الذي يتعرّض له وأن في ذلك تحقيق لمصلحة وطنية هو لا يدرك أبعادها بينما من أمره بالتعذيب يدركها عنه، ولكن ما لديه من بقايا الضمير سيحدث زلزالا نفسيا في مرحلة لاحقة وسيقض عليه مضجعه وينحّي بالنوم بعيدا عن عينيه، وماذا عن أهله وذويه الذين يدركون طبيعة عمله كيف سينظرون عليه؟ أذكر أن قاضيا حكم في يوم من الأيام حكما لاعتبارات سياسية ما بعيدا عن الاعتبارات القانونية والقضائية ثم أنه أراد أن يحجّ فجاء يطلب المسامحة ممن ظلمهم، فقالوا له: لن نسامحك ولن نسامح من يسامحك. لن يهنأ بالعيش يوما من يمارس الظلم وهذا التعذيب المقيت باشكاله المريعة من شبح وضرب وسبّ وشتم، سيأتيه المشبوح في منامه وسيسمع أنّات المظلومين في أعماقه لتدقّها دقّا عنيفا وستأتي عليه أيام يتألم فيها أضعاف ما أحدثه من آلام في نفوس ضحاياه. 

وماذا عن المظلومين ودعائهم ودعاء ذويهم، والله إنّي لأشفق من هول ما سيقع على أولئك الجلادين والظلمة من هذه الادعية المعلوم عنها أنه ليس بين أصحابها وبين الله حجاب، خاصة وأنهم يعلمون عواقب الظلم ومع ذلك يمارسونه، اذكر أنّي ذهبت في واسطة خير للمطالبة باطلاق سراح أسرى سياسيين من السجون قبيل العيد فما كان من المسئول الا وسرد لنا عن وقع الظلم أيام كان معتقلا في سجون الاحتلال وكيف كان يمرّ العيد عليهم بحالة عاطفية جيّاشة جعلتنا نستبشر خيرا، للأسف مرّ عيد وعيدان وثلاثة ولم يفرج عنهم. وأذكر يوما ذهبت مع شابّ يشكوا آلام الشبح لوزير مسئول وقال نحن نوافق على الاعتقال لكن ليكن دون شبح على الاقلّ. حينها قال الوزير عندما ينتهي الانقسام ستنتهي كل هذه الالام، وها قد طال الانقسام وبقي الشبح، لو كان أخوك هو المشبوح فهل تطلب منه الانتظار الى حين انتهاء الانقسام. 

وإنا لنعلم أيضا أن الغالبية العظمى من هؤلاء المعذبين هم أسرى محررين قد قضوا في السجون الإسرائيلية دهرا، فهل يرون العذاب في سجون فلسطينية من جديد، ألم تكفهم تلك الآلام؟؟

المسألة جد في غاية الخطورة وخطيرة على الظالم قبل أن تكون خطيرة على المظلوم، لذلك لا بدّ من تداعي أولي النهى وكلّ من له علاقة في الشأن الفلسطيني العام لوضع وثيقة وطنية تضع حدا لهذه الكارثة المأساوية التي تعمل عملها في الجسم الفلسطيني لتصل نهاية المطاف إلى نتائج مدمّرة للنسيج الفلسطيني ولا تحمد عقباها أبدا، ثم تدفع بهذه الوثيقة ليوقّع عليها كلّ من يعنيه الشأن الفلسطيني ونسيجه الوطني ليشكّل بعدها هذا الحراك حاضنة شعبية ضاغطة ومؤثرة على كل من يمارس الظلم او التعذيب في سجونه التي تسمّى فلسطينية.

#سجن أريحا