فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: تتحرك أمه في البيت جيئة وعودة، تجر مخاوفها خلفها تنتظر ما يبرد نيران القلق المستعرة داخل قلبها، توجه نظرها لزوجها: "اتصل شوف أي خبر عن محمد!"، تنتظر ما يعيد لها الأمل، ويعيد عجلة الحياة للدوران داخل قلبها بعد أن جمدها خبرٌ وصلها من ابن شقيقتها بأن "رصاصة مغلفة بالمطاط أصابت محمد"، لم تتهيأ لخبر الإصابة، كما لم تتهيأ لأي شيءٍ آخر بعده.

تقفُ على نافذة المنزل تنتظر عودته، وفي الأثناء يمر شريط أحداث يوم الجمعة أمامها، بدءًا بلحظة إشراقة الشمس وتوزيع خيوطها الذهبية، أفاقت على طلب ابنها الصغير محمد حامد (16 عامًا) من بلدة سلواد في رام الله،  بأن تعد له فطورًا يملأ الطاولة، وحدد لها طعام الغداء.

عاد من صلاة الجمعة، وبدأ حواره الأخير معها، لكن طلبه كان مفاجئًا: "بدي أتزوج".. طلبٌ أثار ضحك الأم لكنها أعطته أملاً: "وعد بعد أربع سنوات حزوجك"، مدة  رآها الفتى طويلة: "بتعرفي بعد أربع سنوات شو حيصير، العالم ممكن ينتهي!".

اتجه نظره نحوها وقال بثقة: "بدي أستشهد" غير كلامه ملامح وجهها فلم يرق لها المزاح: "ما تكسر قلبي، زي ما كسره اعتقال أخوك أحمد" تذكره بما حدث: "شفت هجموا على الدار وقصفونا بصواريخ أنيرجا وتبهدلنا"، تقص عليه شريط الواقعة التي عايشها هو أيضًا: "شفت أخوك نص ساعة والجيش بضربوه على باب الدار وأخذوه معهم من رمضان لليوم"، في فمه كان هناك شيء آخر: "ما تخافي ما حكسر قلبك، ولا حخلي الجيش يجي على الدار".

قبل إغلاق الحوار بينهما، قطع وعدًا لها بإهانة "إسرائيل" وجيشها : "والله لأجيب علم "إسرائيل" عن ظهر الجيب وأرميه تحت إجريك".

الساعة الأخيرة

عصر الجمعة الماضية، خرج من منزله في بلدة سلواد قضاء رام الله، ليجتمع بأقرانه عند "برج الحرية" بالبلدة، وكالعادة يضيق جنود الاحتلال على المارة ويستفزون أهل البلدة لاستدراج فتيانهم للاشتباك معهم واعتقالهم في لحظةٍ اقتربت الشمس من الرحيل وسحب أشعتها من سماء سلواد، وهكذا تحول لقاء الأصدقاء من اللعب والتجمع إلى اشتباكٍ بالحجارة مع جنود الاحتلال.

تخفى الجنود وراء سواتر وصخور بين الأحراش، وبدأ الفتيان بالتقدم أكثر فأكثر وهم يلقون الحجارة ولا يرون مصدر الرصاص، الفتى محمد حامد يتقدم بخطواتٍ حذرة، يندفع في الخطوط الأولى وهو لا يحمل حجارة بيديه، حتى سمع الفتيان أصوات ثلاث رصاصات ابتلعت الجبال القريبة صداها، واحدة منها أصابت محمد في منطقة الفك (قريبة من الفم)، وسقط مضرجًا بدمائه.

ظل ينزف لأكثر من ساعة منع فيها جنود الاحتلال إسعاف الطفل، لكنه في المقابل أحضر طائرة مروحية للمكان وقام بنقل جثمانه، موهمًا أنه يحاول إسعافه.

مع حلول المساء، أفزعت أمه  زوجها عبد الله حامد والد الفتى، يسبقها صوتها من بعيد وهي تسارع الخطوات نحوه، ترافقها تنهيدة خوف: "محمد متصاوب بالمطاط!"، ليطلب منها الهدوء: "طالما الأمر كذلك، فإن شاء الله سليمة" يحاول إخماد مخاوف زوجته المستعرة أمامه".

تنصتُ "شبكة قدس الإخبارية" لبقية التفاصيل بصوت الأب المكلوم: "تغيرت رواية الاحتلال أكثر من مرة، بالبداية أخبرت زوجتي بواسطة ابن شقيقتها بإصابته بالمطاط، ثم اتصل بنا الارتباط الفلسطيني وأخبرونا أنه أصيب بالأجزاء العلوية برصاصة حية، ثم عاودوا الاتصال وقالوا بأن إصابته قريبة من الرقبة ولكنها طفيفة، وفي منتصف الليل أبلغنا أن حالته خطرة، وبعد ساعتين وصلنا خبر استشهاده".

روح تحلق

في صوت والده حزن كامن يتخفى وراء ستائر صبره: "عندما أحضروا الطائرة المروحية، كانت بهدف ذر الرماد بالعيون وإظهار أن جيش الاحتلال يقوم بالإسعاف، ولكنهم أخفوا الحقيقة للعالم، بأنهم تركوه أكثر من ساعةٍ ينزف حتى فاضت روحه، وقبل ذلك أخفوا ما يفعله جنود جيش الاحتلال من استفزاز الفتيان والشبان لاستدراجهم وقتلهم". 

فتى أعزل، أعدمه جنود الاحتلال أمام عدسات الكاميرات، ومنعوا طواقم الإسعاف من الاقتراب منه،  ثم غلفوا جريمتهم بثوب التضليل بإرسال طائرة مروحية تواري جريمتهم، وحملوا جثمان الفتى الصغير بعد أن طارت روحه ليحلق روحا وجسدًا في سماء فلسطين وتنعم بالحرية، بينما لا زال جثمانه محتجزًا، منذ الجمعة الماضية، ما جعل شقيقه الصغير نعيم (10 سنوات) لا يصدق أنه رحل، ويقول إن "لديه إحساس قوي أن شقيقه لا يزال حيًا، وأنه لم يستشهد، ويتمنى عودته".

بين أملٌ قائم في قلب والدته عبر عنه نعيم بأن تدب الحياة في قلب محمد، وخبر استشهاد مؤكد، يبقى حضور الجثمان مسجى بدمائه أمامهم، هو السبيل الوحيد لينهي صراعاتهم الداخلية مع الأمل، ويضع نقطة النهاية وإسكات علامات الاستفهام التي تحوم حول مصيره، رغم أن جميعهم متأكدون أنه رحل شهيدًا.

قبل ساعات كان محمد يجلس بينهم، يداعب أشقاءه الأصغر سنًا، يتحدث عن مستقبله ويرتبه بدقة مع والدته، تدور عجلة الحياة بشكلها الطبيعي كحال أي أسرة، تتعالى الضحكات تارةً، لكن في لحظة تغير كل شيء وتوشح المنزل برداء الحداد الأسود، امتلأ بالمعزين، لأول مرة تسمع والدته: "ربنا يصبركم على فراقه" ثم تطلب منها النسوة التماسك: "إن شاء الله  أجرك عند الله، احتسبيه شهيدًا" كل شيء يمر أمامها في لحظة قرر جندي إسرائيلي إنهاء حياة طفل فلسطيني، هو بالفعل اتخذ قرارًا بقتل عائلته.

وكأنَّ ( جبران) تحدث عن هذه اللحظة التي عاشتها الأم حين تحدث عن الموت فكتب " الإنسان لا يموت دفعة واحدة .. ولكننا، بشكل ما، نموت في أجزاء، كلما رحل صديق مات جزء؛ وكلما غادرنا حبيب مات جزء؛ وكلما قتل حلم من أحلامنا مات جزء ثم يأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة، فيحملها ويرحل"، وكأنهم قتلوا جزءا من الحياة في قلب أمه وعائلته بقتله.

مشهد مرعب

لكن هذه القصة لم تبدأ من لحظة قتل محمد، بل بدأت ملاحقة العائلة باعتقال شقيقه الأكبر أحمد (20 عامًا) وسجنه أربعة عشر شهرًا، ثم عاود جيش الاحتلال اعتقاله في مشهد مرعب يقص والده تفاصيله: "سمعت أصوات مكبرات صوت: "سلم نفسك" اعتقدت أن جنود جيش الاحتلال جاؤوا لاعتقال أحد أبناء الجيران، ثم سمعت صوت قذيفة أنيرجا تنفجر بباب البيت، شعرنا بالخوف وتوزعنا في أرجاء المنزل، تبعه صوت رصاص، تطلقه فرقة "اليمام" المختصة بالاغتيال".

فرقت القذائف التي انهالت ست منها على باب المنزل مائدة العائلة على الإفطار مع رفع آذان المغرب في رمضان، في انتهاك لحرمة الشهر  "كلما حاولت تسليم نفسي كانوا يطلقون قذيفة أنيرجا (تطلق من بندقية)، ثم اعتقلوا ابني وضربوه ضربًا مبرحًا لمدة نصف ساعة، وصادروا كل هواتف وحواسيب المنزل". 

كان هذا الحدث نقطة التحول في حياة محمد، يقول والده "لم يكن ابني يحب المشاركة في مواجهة الاحتلال، لكن منذ هذا الحدث أصبح كالأسد، يهجم على جنود جيش الاحتلال حتى بيديه وبدون حجارة، وكان يصمم على نزع علم الاحتلال من ظهر جيبهم العسكري، وحاول في إحدى المرات وصعد على الجيب لكنه لم يستطع ذلك، وفي يوم استشهاده أيضًا ذهب لإحضار العلم"، مؤكدًا، أن الاحتلال هو من جعل ابنه خصما لدولة الاحتلال بسبب اعتداءاتهم الوحشية.

خرج محمد من المدرسة، وعمل في الرخام والجرانيت، كان يحب الألعاب الإلكترونية، يخرج كل يوم بعد عودته للتنزه مع أصدقائه، لكن ظل قلبه معلقًا بزيارة الأقصى، إلى أن تحققت أمنيته هذا العام، تفاصيل الرحلة الصعبة تمر على حديثه والده: "طلب أن يذهب للأقصى، فأخبرته أنه لا زال صغيرًا، وسيمنعه جنود الاحتلال، فذهب من خلال التهريب، لكن شرطة الاحتلال بالقدس أمسكته وضربته بشدة، لكنه لم يعد للمنزل والتف من بوابة أخرى وحقق أمنيته بالصلاة بالأقصى والتقط صورًا".

"كان عنيدًا، يصمم على أي شيء يريده، كان بسيطا وقلبه طيب" لحظة ذرف فيها والده دموعه، "رزقنا الله بستة أبناء (خمسة  أولاد وبنت) وها هو رحل محمد شهيدًا، ولا زال الاحتلال يعتقل أحمد".

هذا الأب الذي مكث في العناية المركز 65 يومًا بسبب بفيروس كورونا، وتوفيت أمه هذا العام بسبب  المرض، وكان يستعد للانتقال لبيت إيجار آخر خلال الأيام المقبلة، بسبب طلب أصحاب البيت منهم إفراغ البيت بعد اقتحام الاحتلال الأخير له، تكالبت عليه هموم الدنيا التي أكملها وجع الفراق، وبات في نظره البيت فارغا في غياب محمد.

في صوته حسرة وهو يحاول التماسك على فقد ابنه "نريد جثمانه، لكن إن لم يسلموه لنا، ماذا أقول؟ أهم شيء الروح، وهذا الجثمان للتراب ومواراته الثرى، أما أنا فأرفع رأسي عاليًا أن ابني مات شهيدًا ولم يمت في شجار أو في حادث".