شبكة قدس الإخبارية

قتل 12 جندياً عام 2014 واستشهد بسيف القدس

أحمد عرفات.. شهيدٌ أحيا بطولات "العصف المأكول"

285438540_3245854642315928_1166554795394156172_n
يحيى موسى

غزة - خاص قدس الإخبارية:وضع كأس الشاي الذي لم يكمل شربه على الطاولة، ولم ينتهِ منه بعد فدبَّ القلق في قلبها، بدلَّ ملابسه وخرج مسرًعا، كانت أفكاره تسبق خطواته، وعلى عتبات الباب استدار أحمد (29 عامًا) نحو زوجته نورا التي تصغره بثلاث سنوات يشعرها بانصرافه، فكانت أشبه بإشارة وداع: "سأذهب" وأوصاها ببضعة أشياء على عجلٍ، فغمر الدمع عينيها وهي توصيه على نفسه: "دير بالك على حالك" ثم أودعت دعواتها في قلب السماء بأن يحفظه الله لهم ويعيده سالمًا بعد مهمةٍ موكلة إليه بضرب قذائف الهاون على الحشود العسكرية على تخوم غزة، ما لبث أن عاد وهو يحمل طفلته تالين ابنة الثلاث سنوات، وبيدها ظرف حاجيات اشتراه لها وطبع قبلةً على خد طفلته وغادر.

لم تكن نورا تتابع أخبار العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ أيار 2021، كأي إنسان تمر عليه الأخبار سريعة، بل كانت تدقق في أسماء المصابين والشهداء، ومع كل اسم يبثه المذيع، كان أيضًا يبث الخوف في قلبها، خشيةً أن يمر اسم زوجها "أحمد عرفات"، لكن اتصالا هاتفيا منه كسر مخاوفها، بلهفة ردت عليه بعدما ألقى التحية – "طمني عنك ؟ - الحمد لله كيف أنتم وكيف تالين؟ - متى حتروح؟ - بس يصير هدنة – طيب في أخبار عنها؟ - لا؛ يومين، ثلاثة بتبين، - طيب دير بالك على حالك! – ما تخافي أنا كويس".

(نورا) تستجدي من زوجها الموافقة على قبول أن تتصل عليه مرة واحدة يوميا، غمرته ابتسامة سبقت صوته وبعث في قلبها شيئًا من الابتهاج: " رني كل يوم مرة .. ما تعملي لي قلق". لكن من ناحية عملية لم تتمكن من الاتصال به لظروفٍ أمنية، فبدأت تستشعر بالخطر وبصعوبة العدوان في الخارج، فكثفت من دعواتها طوال الوقت، وصلواتها حتى جف دمعها على وجنتيها.

أمسكت هاتفها لتجد عدة مكالمات فائتة (لم يتم الرد عليها) من شقيق زوجها ووالده، في لحظة كانت في زيارة لبيت أهلها، فبعثت رسالة لشقيقة زوجها تسألها: "صاير شي!؟" حروف كتبتها واختفت وراءها مخاوف كبيرة، "لا بس بدهم يحكوا مع تالين" كلمات هدأت نبضات قلبها المستعرة خوفًا أن يكون مكروهًا قد أصاب أحمد، واتصل عمها وتحدث بالفعل مع طفلتها.

بلا مقدمات

بعد دقائق اتصلت شقيقته (أم أحمد) تسألها عن أحمد، فأجابتها "نورا" أنه بخير، انتهى الاتصال ولم تنته مخاوفها وأفكارها المتصارعة عن سبب الاتصال الذي لم تجد له تفسيرًا، فاتصلت على شقيقة زوجها الأخرى، فتحشرج صوتها، حينها وصلتها نصف الإجابة التي أيضًا وصلتها بلا مقدمات: "أحمد استشهد".

حاولت العيش في الوهم قليلا، إنكار الخبر، تذكر ضحكته وصوته لها: "حأرجع بعد الهدنة"، لتنكر الخبر: "لا أحمد بخير"، قبل أن تلمح دموعًا صامتة في عيني أمها، التي طلبت منها احتساب الأجر عند الله في مصابها "اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلفني خيرا منها" ابتغاءً للأجر.

ذهبت "نورا" للمشفى، وقفت أمام أحمد المسجى بدمائه، وصلها صوته من بعيد "ادعيلي وسامحيني إذا استشهدت" كان قلبها هو الذي ينطق ويسامحه على مفارقتها له، لكن مقعده فيه بقي إلى الأبد، لم يغادره، تتأمل ملامحه الساكنة وابتسامة رافقته حتى لحظة استشهاده، تأمل أن يفتح عينيه، أو أن يعود النبض له مرة أخرى، وليت دموعها التي سقطت من عينيها على وجهه تفعل ما تمنت، لكنه قدر الله غالب.

خرج أحمد من منزله في العاشر من مايو/ أيار، وعاد بعد ثلاثة أيام لمعايدتهم لنصف ساعة، كانت عودته هي العيد بالنسبة لـ "نورا" أجمل نصف ساعة بين ليالي العدوان وأيامه، ثم انقضت الدقائق الثلاثون وعاد لمربضه في إطلاق القذائف على الاحتلال.

أوفى بوعده لها عندما تقدم لخطبتها، وكان وعده أن يتصل بها كل يوم ليطمئنها إن حدث أمر طارئ، "فأوفى بوعده"، واستشهد في السابع عشر من مايو/ آيار، عندما أطلق قذيفة "هاون" وأراد أن يطلق الثانية، فباغتته طائرة إسرائيلية بدون طيار بإطلاق صاروخ تجاه الأرض التي كان يتحصن تحت أشجارها، فلم يصبه الصاروخ، فانسحب لمنطقة أخرى، فأطلقت صاروخين آخرين، ثم قامت طائرة حربية بإطلاق صاروخ حربي فتطاير غبار الأرض، سمع أصدقائه نطقه الشهادتين، وصوت التكبيرات، لم تصب الصواريخ رغم كثافتها جسده مباشرة، وإنما استشهد بشظاياها التي أصابته في الرقبة والبطن.

قصة من العدوان

كتب الشيخ محمد الأسطل عقب حرب 2014 "قررت أن أكتب كتابًا أجمع فيه طرفًا من أخبار المعركة، فلما جئت المنطقة الشرقية جلست مع الأخ أحمد عرفات ما أذكره من كلامه أنه قال: كانت النقطة التي نرابط فيها استعدادًا لملاقاة العــدو في بيتٍ، وقدَّر الله أن يُقصـف البيت وأنا وأخ مـجـاهـد معي فيه، فأصبنا بجروح لكن إصابة صاحبي كانت أشد حتى انتهت بارتقائه فيما بعد، وعندئذٍ خرجنا من البيت وتوجهنا إلى بيتٍ آخر كان قد وُضِع بديلًا عن البيت الأول فيما لو حصل مكروها".

يروي "بينما نحن في طريقنا إليه وإذا به يقصـف أمام أعيننا، ولم نكن قد وضعنا بديلًا آخر، فبقينا واقفين نفكر أين نذهب في هذه الأجواء المحتشدة بالطيـران والقصـف، والخوف يعم المكان من كل جانب".

وقال: "جاءت التفاتةٌ مني وإذ بي أرى عددًا من جنود الاحتلال كانوا قد تسللوا وهم يرتبون صفوفهم وعلى شدة قرب المسافة بيننا وبينهم إلا أنهم لم يروننا، فأطلقت النار عليهم مباشرةً وبقيت أُعمِلُ المقتلةَ فيهم حتى قُتِل في غالب ظني منهم اثنا عشر جنديًّا على الأقل بفضل الله تعالى." فاضطربت صفوفهم وتشتتت أحوالهم فاستثمر أحمد ذلك فرصة وقد انتهت ذخيرته فقصد بيتًا تم قصـفـه ودخل فيه؛ لعله يجد مكانًا في داخله للاختباء تحت الركام، يكمل "فبحثت فوجدت بابًا ملقىً على الأرض ولكن بينه وبين الأرض مسافة، وكان جزءٌ من سطح البيت كذلك، فنمت تحته، وقد لاحظت أن بعض الجنود رأونا لما دخلنا، فلما رتبوا صفوفهم جاؤوا إلينا يبحثون عنا، ففتشوا البيت وطال بحثهم، حتى وقف بعضهم فوق الباب الذي نجلس تحته وهم في حيرة من أمرهم".

سمع أحمد منهم كلامًا بلغتهم العبرية لم يفهم لكنه شتم وتذمر بحسب اللهجة، فلما يئسوا غادروا، ثم جاؤوا بعد ساعات للبحث من جديد، فلما "لم يجدونا فأشعلوا النار بالبيت من داخله، وبقيت النار تقترب منا، واجتهدت في الدعاء أن يُسلِّمنا الله منها، فلما لم يبق بينها وبيننا إلا 40 سم تَوَقَّفَتْ بفضله تعالى".

هذه القصة سمعتها زوجته منه مراتٍ عديدة، لكنه بصيغة أن صديقًا له "قتل جنودًا إسرائيليين، وحتما سيقتله الاحتلال"، تعلق وهي تروي لـ "شبكة قدس الإخبارية": "كنت أبك على زوجة صديقه، ولكن لم أتوقع أبدا أني أبكي على نفسي فلم يخطر ببالي أنه هو ذلك الصديق، قاتل دون تردد ودون خوف، لم يقل إنهم أقوى مني، بل قتلهم بقلب بارد وبهدوء أعصاب واختفى عن عيونهم وكان بينه وبين الجندي حجرا لو أزاحه بقدمه لرأى جسده خلف الحجر الذي وضعه بقرب الباب".

تضع زوجته النقطة الأخيرة في تلك القصة "بقي أياما طويلة في البيت المدمر يشرب الماء بغطاء الزجاجة، لم يكن يعرف الأيام، وبدأ جسده بالانهيار من قلة الأكل والحركة، قال: "لو كان معه ذخيرة لقاتل فيها" لكن قلة الذخيرة أبقته في مكانه، وقال، إنه، كان يرى أصدقاءه يستشهدون واحدًا تلو الآخر، وهذا لم يضعفه بل قوي أكثر وأحارب أكثر".

إضافة لما قالته، كانت الشظايا "تغطي معظم جسده، فيمر الشتاء ولا يتحمل دفء جسده من آثار الجروح، ولا يتحمل برده أيضًا، ويأتي الصيف ولا يتحمل حره ولا هواءه فكان يعاني بشدة من الجيوب الأنفية، لكن لم يمنعه مرضه من القتال، فقتل جنودًا في الحرب".

بينما كانت تجلس "نورا" أمام شاشة التلفاز لمتابعة برنامج "ما خفي أعظم" على قناة الجزيرة، ذُكر اسم زوجها أحمد عرفات في البرنامج وملأ اسمه مواقع التواصل، لم تتوقع ذلك، "فخورة أن اسمه وقصته انتشرت في كل مكان، فزوجي لم يؤذِ أحدًا وكان يحب الخير للجميع، فسخر الله عباده ليدعو له".

تلاصقه الابتسامة

تلاصقت الابتسامة على وجه أحمد، فلم تفارقه، حتى أصبحت البشاشة صفة ملازمة له أينما ذكر اسمه، في غضبه أيضًا يتبسم، تمر صفاته على حديث زوجته "كان حنونا كريما يحب بصدق، لا يتدخل بما لا يعنيه، لا يقبل الهزيمة ويحب أن يكون بالمقدمة ويسعى ذلك، كان الكرم طبعه، وهناك سيرة بينه وبين الله لا يعلم بها أحد، كان مرتل للقرآن يحافظ على ورد يومي والأذكار، يحمل قرآنا صغيرا في جيبه وأينما سنحت له الفرصة تجده يرتل آياته، يحافظ على صلاة الجماعة بوقتها، على الصدقات كان يحب طفلتنا تالين يعلمها الخطأ والصواب وكذلك يحب كل أطفال العائلة ويحبونه".

عندما استشهد كانت زوجته حاملا بمجد، هذا المولود الذي انتظر أحمد أن يضمه إليه، ويسمع صرخة الحياة الأولى منه، وأن يردد الآذان في أذنيه، لكن لم ير مجد ولم يداعبه، والآن تجاوز عامه الأول في الحياة وفي اليتم كذلك.

لم يودع أحمد زوجته مرة، فحياة مجاهد في كتائب القسام والمقاومة على تخوم التماس في غزة يعني أن خبر الاستشهاد قد يأتي في أي لحظة، سواء في حرب أو في إعداد لذلك كان يودع زوجته وطفلته في كل مهماته، تستحضر مشهدًا من مراسم الوداع "كان يودع طفلته تالين في كل مرة يخرج بها حتى لو فجرًا، ويوصيني عليها، يوصيها علي رغم صغير سنها، كان يتحدث معها كأنها كبيرة".

موقف من إصابته بفيروس كورونا قبل استشهاده بأسبوعين يضيف مشهدًا جميلاً بين الأحداث السابق "لم يتحمل أن ينعزل عنها كثيرا، فكان يطلب منها أن ترتدي كمامة، حتى تصبح المسافة الفاصلة بينهما ثلاثة أمتار، ويلقي لها قبلة في الهواء".

مرَّ رمضان الأول في غيابه، قاسيًا عليها، فلم تجد متسابقًا حريصًا على استغلال كل أيام الشهر الفضيل مثله، كان يقيم الليل طوال رمضان وليس في العشر الأواخر، يضع خطة في رمضان يحافظ على تكبيرة الإحرام، الصدقات، صلة الرحم، قراءة القرآن، أداء جميع الطاعات والعبادات يمكث في المسجد من بعد الفجر حتى الشروق.

تعترف وهي تودعُ سلامًا لروحه الطاهرة "كنا نتسابق على الطاعة ولكنه كان يغلبني دائمًا، علمني أن أستغل آخر ساعة قبل المغرب بالدعاء، وقراءة القرآن، وهذه السنة لم أجد رفيقي لأتسابق معه بالطاقة، لم أجد من يشجعني، لكني وضعت الإصرار بداخلي، كان رمضان الأول في الغياب صعب، كان طيفه حاضرا على مائدة الإفطار ندعو له قبل الإفطار".

الطبيعة الخضراء كان أكثر مكانا جمع الزوجين اللذين يسكنان في منطقة عبسان الصغيرة شرق خان يونس، فيه كان أحمد يسترق وقتًا، ليشعر بالراحة، بعيدا عن ضجيج المدينة الصاخبة، كان يحب شعور الهدوء، التنفس بحرية، يحفر حفرة صغيرة ويشعلَ موقد نار، ويقوم بشواء الطعام، "سعادته كانت في الطبيعة، كثيرا كني نمشي على الحدود ونرى المساحات الشاسعة، وكان يعرف كل النقاط التي يكون قبالتها من جهة السياج الفاصل جنود الاحتلال ويحاول ابعادي عنها كي لا تتعكر صفوتنا مع الطبيعة وأصوات الطيور.. فإلى رحمة الله يا أحمد يا رفيق عمري وعهدنا أن نلتقي في الجنان والله ما نسيتك لحظة واحدة".

"لا تجعل همّك حب الناس لك فالنـاس قلوبهم متقلبة قد تحبك اليوم وتكرهك غدا وليكن همّك كيف يُحبك رب الناس" عبارة كتبها أسفل اسم حسابه على موقع "فيسبوك"، وها هو يساق اسمه على كل لسان متباهين ببطولته في عدوان 2014 التي أحيا سيرتها.

#المقاومة #سيف_القدس #العصف_المأكول #أحمد_عرفات