شبكة قدس الإخبارية

والدة الأسير "يعقوب قادري" .. انتظرته 20 عامًا ولم يصل

IANCF
يحيى موسى

غزة - خاص قدس الإخبارية: ترقرقت عيناها وانسابت دموعها وتغير مجرى جريانها من قلبها المقهور إلى وجنتيها، لم تعدم الأمل من أمنيتها الوحيدة وهي تحزم حقائب الرحيل، موجهةً حديثها إلى ابنها محمد بصوتها الخافت الذي بالكاد التقطت أذناه حروفها المتقطعة وصوتها الحنون المتألم: "زرتوا يعقوب؟ .. بدي أشوفه!"، تحدق عيناها بجميع أبنائها المحيطين بها بالمشفى، ومن خلفهم تطل صورة ابنها الأسير يعقوب قادري (49 عامًا) من قرية "بئر الباشا" في جنين كطيفٍ، غاب عنها جسدًا منذ عشرين عامًا بعد اعتقاله عام 2003، وظلت تنتظره على ضفة الأمل.

لم يكن ابنها الأسير، أحسن من أمه حالاً، فوصله خبر مرضها المفاجئ بالسرطان قبل خمسة أيام وأثناء جلسة محاكمته التي قررت محكمة الاحتلال سجنه خمس سنوات هو باقي أسرى "نفق الحرية"، أي أن خبر المرض استغرق عشرة أيام حتى وصله.

استيقظت من غيوبتها، الثالثة فجرًا أمس، تسلل يعقوب مع أنفاسها وكان يمنح نبضات قلبها شحنات أخرى من التشبث بالحياة، تترك وصيةً أخيرة بعدما أدركت أنه لا مفر من الموت، وأن لحظة الفراق حانت قبل احتضانه، تجتاح عينيها دموعٌ تنساب على تعرجات وتجاعيد وجهها، تلخص عشرين عامًا من القهر والانتظار والحرمان: "ديربالكم عليه، زوروه، اطمنوا عليه، جوزوه، سلموا عليه"، كلماتٌ كانت متقطعة في آخر ساعاتها، كلما استيقظت نطقت بواحدة ثم عادت لمعركتها مع المرض.

لم يقو جسدها الضعيف على مقاومة مرض أحكم الإمساك بجسدها الضعيف، فجأة سكن النبض، وهدأت أنفاسها الخافتة، وجفت الدموع على خدها، وأغمضت الحاجة عطفة عبد اللطيف قادري (86 عامًا) عينيها، الساعة السادسة صباح، السادس والعشرين من مايو/ أيار 2022.

في زنزانة العزل، يستمع يعقوب إلى الأخبار، هي وسيلة الأسرى الوحيدة يعرفون من خلالها أخبار ما يحدث في الخارج، في لحظة انصات لمجريات أحداث المسجد الأقصى، نعى المذيع والدته، كان نعيًا بلا مقدمات، بلا تمهيد، قرأه دفعةً واحدةً "وفاة والدة الأسير يعقوب قادري"، وليت "المذيع لم يحمل له الخبر" .. يقول شقيقه محمد، لأن وقع: "الصدمة المفاجئة أكبر من تلقي الخبر بعد تمهيد وتهيئة نفسية".

من نافذة باب الزنزانة، قبض يعقوب يديه على قضبانه، وصرخ على أحد الأسرى في الأقسام الأخرى يطلب منهم التأكد من صحة الخبر، وهو يعلم أنه صحيح.

يدقق شقيقه محمد (44 عامًا) عبر الهاتف، لـ "شبكة قدس الإخبارية" في آخر أسبوعين من حياة أمه: "رغم كبرها بالسن لم تكن مريضة، وقبل أسبوعين بشكل مفاجئ تعرضت له أمي، فنقلناها على المشفى، شخَّص الأطباء حالتها بإصابتها بالسرطان".

في الأسبوع الأول كانت مستيقظة وفي الثاني كانت تغيب عن الوعي وتعود، فكان صارع بين الموت والحياة، وفي كل مرة تستيقظ فيها تسأل عن يعقوب وإن كان هناك زيارة له، وإن كان هناك أملا أن يخرج، "توصينا على زيارته وعدم قطعه والاطمئنان عليه وإرسال الأغراض له، وأن نزوجه بعد أسره بعدما أدركت أنها ستموت".

"نفق الحرية"

قبل انتزاع يعقوب وخمسة أسرى حريتهم من سجن "جلبوع" في السادس من سبتمبر/ أيلول 2021، زارته أمه قبل الحادثة بشهرين، وقبل لحظة انتزاع حريته، منع المرض والدته من مرافقة ابنتها فردوس، فزارت الأخت شقيقها بمفردها في الزيارة الأخير قبل الحرية التي استمرت خمسة أيام.

رأت شقيقته ملامح التوتر على وجهه وهو يسألها: "وين امي ليش ما جبتيها معك!" فوعدته أن تأتي بها بالزيارة التالية، فكانت الزيارة التالية بعد عدة شهور تخللها أعظم حادثة انتزاع حرية في التاريخ، من خلال نفق حفره شقيقها من سجن جلبوع تنفس فيه هواء فلسطين لخمسة أيام ورأى فيها لأول المرة الشمس بكامل استدارتها بلا شباك سجن تملأ مربعاتها الصغيرة سقف السجن فتجعل على الصورة غشاوة.

جاءت شقيقته تزوره وحيدةً مطلع مايو الجاري، لأن والدته لم تقو على الذهاب معها، فحدثها عن حادثة انتزاع الحرية، وجمال خمسة أيام رأى فيها الأشجار والسهول، وأنها "أنسته مرارة العشرين سنة".

شعور الحرية المؤقت

يوم حدث الحرية، استيقظت العائلة على خبر انتزاع ستة أسرى حريتهم، يلتصق ذلك اليوم بذاكرة محمد: "لا تتخيل فرحة أمي، وكأن دولة الاحتلال زالت، بقينا نتابع الأحداث على مدار خمسة أيام، ولأننا سجنا قبل ذلك، ولوالدتي حس أمني، طلبت منا بث اشاعة أنه ذهب للأردن، لتضليل الاحتلال لأن جيش الاحتلال كان يرسل قواته كل ساعة لاقتحام البيت، وكان يضايقها وجود أي شخص ليس من أبنائها بالبيت بعد منتصف الليل تحسبًا لقدوم يعقوب".

يمر على حديث محمد حوار احتد بين والدته المسنة وضابط جيش الاحتلال آنذاك ..

الضابط يريد من الحجة اخباره بمكان يعقوب: "بتعرفي وين راح!؟".

كان السؤال فرصة لها، للانتقام عن مرارة أيامٍ مرَّة ذاقتها، وهي تكتف يديها: "بعرفش، طلع من عندكم، مش من عندي!"، ولم يملك قدرة على الرد، يستذكر محمد لحظة إعادة اعتقال شقيقه: "نكسنا رايتنا، وشعرنا بالغصة".

وعدت المقاومة بأن يعقوب وأسرى "نفق الحرية" سيكونون على رأس صفقة التبادل خففت عن أمه، تطل صورتها أمامه: "عاشت والدتي الدور وكأنه سيعود قريبا، وبدأت بالتخطيط لاستقباله، ترقب أي شيء عن الصفقة، وتسأل إن كانت هناك أخبارًا من غزة، وتراقب المذياع، وعندما طالت المدة شعرت بالإحباط".

تفاصيل يوم أسره قبل عشرين عامًا، تحضر حديث شقيقه: "كان يومها فرح ابن خالي، ووصلنا الخبر الاعتقال فتحول الفرح إلى عزاء، ثم صدر حكم بسجنه بعد ذلك مؤبدين وخمسة وثلاثين عامًا، لا زلت أذكر كلمات أمي: "الحكم حكم ربنا .. هم يحكموا شو ما بدهم، السجن بتسكرش على حد".

عانت الحاجة عطفة من الزيارات، خاصة عندما يكون يعقوب في سجون النقب جنوب فلسطين، وكانت المسافة مرهقة عليها، لكنها ظلت وفيَّة للزيارات حتى آخر عامين من عمرها، عندما لم تقو على المشي كثيرًا، وطوال عقدين استطاعت التقاط أربع صور تذكارية، اقتنصت فيها فرصة لمعانقته وتخزين رائحته، صورٌ علقتها في جدران منزلها.

في ذاكرة محمد، تفاصيل ثلاثة أشهر عاشها مع شقيقه يعقوب في سجن جلبوع، "سجنت إداريًا في سجن "مجدو"، وقام أخي بطلبي عنده في القسم، ولأني أنتمي إلى فتح وهو إلى الجهاد الإسلامي، فتمنع قوانين الاحتلال أن نبيت في غرفة واحدة، فعشت بنفس القسم معه، عندما رأيته كانت المرة الأولى التي أراه فيها منذ أحد عشر عامًا، كان العناق حارقًا وطويلاً بيننا، كنا في شوقٍ إلى بعضنا البعض، بفرحة عظيمة لا توصف، كان لديه شغف بمعرفة كل شيء في الخارج، سأل كثيرا عن أحوال العائلة والقرية عندما كنا نلتقي في الفورة (ساحة السجن) في فترتي الصبح والعصر".

بعد ثلاثة أشهر جاء قرار نقل محمد من إلى سجنٍ آخر، فسمح السجانون أن يمكثا ليلتهم الأخيرة في الغرفة نفسها، يستعيد تلك التفاصيل من نوافذ الذاكرة التي أطل بها على السجن مرة أخرى: "كانت الليلة الأخيرة مؤثرة، لم ننم، شعرت أنها آخرة ليلة بيننا وأني لن أره بعد الآن، ثم جاء السجانون وفصلونا عن بعضنا، حاولت التشبث به أكثر .. فصلنا ونحن نبكي، كان يوصيني على والدي وأنه سيخرج ويجدهم أحياءً، وها هي أمي ترحل، ووالدي يبلغ من العمر 94 عامًا، يعاني من فقدان الذاكرة، لا نعرف إن كان سيراه أم لا".

#يعقوب_قادري