شبكة قدس الإخبارية

"صبح" لم يوقد الشمعة الـ 16 والمآذن لم تصدح بتكبيرات "شوكت"

رمضان والعيد .. أيامٌ ثقيلة مرت على عائلات الشهداء في "الغياب الأول"

279834328_393454259351430_4151859278107073112_n
يحيى موسى

جنين - خاص قُدس الإخبارية: اجتمعت على قلبها ثلاث مناسباتٍ لم تكن احداهن أقل ثقلاً من الأخرى، مرَّ شهر رمضان وذكرى ميلاد ابنها يوسف ليتم عامه السادس عشر، ثم جاء العيد ليزيد من أوجاع قلبها، ولا زالت تنتظر منذ ثمانية أشهرٍ تحرره من ثلاجات احتجاز جثامين الشهداء.

استقبلت طفلها الوحيد يوسف صبح إلى الحياة بين أخواته الأربع، وإلى الآن لم تستوعب خبر استشهاده، لم تعتد على عدم وجوده بالبيت، على غياب ضحكته، وصوته، وحضوره وإطلالته، فكانت أيام غيابه الأول في رمضان والعيد ثقيلة.

هذا حال أمٍ شهيد قتلت قوات الاحتلال طفلها الوحيد الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره لحظة استشهاده، وأعدم من مسافة صفر في 26 سبتمبر/ أيلول 2021م، ولا زالت دمعتها تتناوب بين السقوط والبقاء بين جفنيها التي انهكها السهر والحزن والتعب والشوق، تنتظر رؤية جثمانه لـ "يشعر بالدفء في حضنها".

شمعة الميلاد الـ 16

"أصعب رمضان مر علي، كنت أنظر إلى كرسيه الفارغ ونحن نجلس على مائدة الإفطار، حيثما كان يجلس فتتجدد الذكريات، وجاءت ذكرى ميلاده في 13 إبريل/ نيسان وهذه المرة لم نوقد له الشمعة 16 لتزيد كل شيء".. تحرر والدته صوتها من قيود حزنٍ تحكم السيطرة عليها منذ ثمانية أشهر وهي تفتح قلبها لشبكة "قدس الإخبارية".

لم تجد والدته قبرًا لتذهب لزيارة ابنها كلما غلبها الشوق، تريد ضمها للمرة الأخيرة قبل مواراته الثرى، أفلتت منها تنهيدة تراكمت فيها مرارة الفقد: "فقدت ابني، وحيدي، بل روحي، هذا من أعظم الوجع، أقف على النافذة كل يوم منذ استشهاده أتخيل أنهم يحملونه ويأتون بجنازته إلي".

يرعبها صوت سيارات الاسعاف، لكنها الآن أصبحت أمنية "أتمنى سماع الصوت لتكون علامة بقدومه، أريد رؤيته وأن أشتم رائحته، عندما يخرج من ثلاجة احتجاز جثامين الشهداء سأتركه يبرد في حضنه لينال الدفء".

ترك يوسف في ذاكرة والدته، أيامًا جميلة، أحلاها العام الماضي عندما أتم عمره الخامس عشر، وبدأت علامات البلوغ تظهر عليه ليوشك على مغادرة سن الطفولة "كنت أنظر إليه سعيدة، أنه بدأ يكبر، كان أمنيتي أن أرى لحية خفيفة تنمو في وجهه".

ورغم أنه يكره الاحتفال بيوم ميلاده، إلا أن في ذاك العام أعدت له والدته مفاجأة، تأخذها ذاكرتها إلى تلك المناسبة التي لن تتكرر بعد الآن إلا بالوجع "عندما حضر البيت أطفأت أنوار المنزل، ثم أشعلتها مرة أخرى وأضأت شمعة ميلاده الخامسة عشر، وتمنيت أن أراه في العام القادم شابا كبيرا، لكن الاحتلال المجرم قضى على أحلامي ومستقبلي".

لم تقاوم "أم يوسف" رؤية أصدقاء ابنها يأتون إليها لمواساتها ليلة العيد وهم يرتدون ملابس جديدة، "كنت أنظر إليهم، أبحث عن يوسف بينهم، وقبلها بيوم عندما نزلت للسوق لشراء ملابس جديدة لابنتي ياقوت (9 سنوات) وكانت برفقتي ابنتي الأخرى رحيق (19 عامًا) كنت أقف أمام محال ملابس الرجال أنظر للملابس التي تناسب مقاسه".

"كان أحلى فرحة، ضحكت الدنيا كلها ليوسف، ما كملوا فرحتنا عليه، قضى الاحتلال على فرحتنا برمضان، بالعيد، بذكرى ميلاده، حتى رافضين يعطونا إياه ميت، عشان يتفنن الاحتلال بتعذيبنا كأنهم عرفوا شوب دمر نفسية الأم واشتغلوا عليه" هذا الوجع لن ينتهي - كما تقول أمه - إلا باستلام جثمانه.

أم يوسف التي لم تجد قبرًا لابنها حتى الآن، اكتفت بمشاهدة صور أهالي الشهداء الذين كانوا يزورون قبور أبنائهم، مشهد يدفعها للتساؤل بقهر "ليش انحرم من وداع وحيدي؟، ليش ملوش قبر؟، ليش كل الناس بتزور أحبابهم بالقبور، وأنا بكتفي بالنظر؟".

في لحظةِ خلوة مع النفس، تداهمها أفكار وتساؤلاتٍ تتساءل في قرارة نفسها، "هل تكسرت خصلات شعره، هل تغيرت ملامح وجهه، وهل يشعر بالبرد في ثلاجاتهم!" تمني النفس أن تضمه بين ذراعيها قبل أن يضمه القبر.

تفتقد أمه كأس الحليب التي كان يطلبها منها يوسف بينما هي تكتفي بالجلوس على سريره وتأمله بلا سبب تخشى من لحظة الوداع، لم يعد هناك من يأتي لينام على قدمهما، حينما كان يرفض الاعتراف أنه تجاوز مرحلة الطفولة بعد، بينما تداعب شعره بيديها، تتحامل على ألم قدمها بسبب طول مكوثه على هذه الهيأة وهو يتصفح هاتفه المحمول، "كان دائمًا يداهمني شعور أنه سيذهب مني" تعلق بمرارة على غياب تلك المشاهد التي تكتفي باسترجاعها من صندوق الذكريات.

مسبحة خضراء أحضرها لها من المسجد الأقصى خلال زيارته للقدس، كانت أجمل هدية تذكرها به: " يومها كان مصرا على الذهاب للأقصى، وأصرَّ على ذلك، ولأن ضباط الاحتلال أرسلوا لنا تهديدا بقتله إن أمسكوا به وهو يلقي الحجارة عليهم، فمنعته بداية وقلت له: "بتحملش أشوفك مسجون" لكنه ذهب للصلاة وعندما عاد ارتدت الروح إلي، ولم أكن أعلم أن ما ينتظرني أصعب من هاجس السج

المآذن لن تصدح بصوت "شوكت"

صدحت صوت المآذن بتكبيرات العيد، لأول مرة لم تسمع والدة الشهيد الفتى شوكت كمال عابد (17 عامًا) صوت ابنها، وهو يردد على ميكروفون المسجد مع حلقة أطفال وشباب وكبار السن قبل بدء الصلاة، ثم يواصل التكبيرات عندما يدخل البيت كما في كل مرة، فأيام العيد مرت باهتة تلاشى منها صوت الفرح الذي كان يأتي مع شوكت، الذي استشهد برصاص الاحتلال الإسرائيلي عقب اقتحام بلدة "كفر دان" غرب جنين في 15 إبريل/ نيسان 2022.

في هذا العيد لم يأت إليها ابنها ليوصيها قبل أن تغوه عيناه "أوعك يما، تنسي تصحيني على صلاة العيد".

شوكت الذي افتتح مشروعه الأول في حياته (صالون حلاقة للرجال) في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، كان يستعد لاستقبال الموسم الأول فجهز محله بديكوراتٍ ومقاعد حديثة تجذب أنظار الزبائن، بعدما أنهى فترة تدريب لتعلم تصفيف الشعر، يضع اللبنة الأولى على مشروعه الأول في الحياة، قبل أن تقتل قوات الاحتلال حلمه.

بصوتٍ مسكون بالألم، تروي والدته لشبكة "قدس الإخبارية" تفاصيل استشهاده، قائلة: "قبل ليلة استشهاده، لبينا دعوة شقيق زوجي على مأدبة إفطار، وكان ابني قد أجرى عملية "استئصال الزائدة" وأصعدوه لبيت عمه بصعوبة، طوال الليل لم يستطع اسناد ظهره من الوجع، لكننا جلسنا وسهرنا".

الفجر، أصر شوكت على أداء الصلاة بالمسجد، حاولت أمه ثنيه عن ذلك لأنَّ صحته لا تسمح له بذلك، تطفو على حديثها بقية التفاصيل "قلت له: إن والدك وشقيقك قد صلوا الفجر بالبيت، لكنه رفض ووعدني أن يصلي ويعود بسرعة، فساعدته بارتداء بنطاله، وعاد سريعًا، في الوقت غادر شقيقه للزراعة ببستانٍ لنا وغفى شوكت على وسادته".

بعد نصف ساعة، صوت رصاصتين اخترقت أذن والدته وأفزعتها من نومها، حملت نفسها وهرعت نحو غرفة ابنها تتفقده، لكن قطع اتصال هاتفي من شقيقتها قطع مسيرها، كانت تطلب منها الانتباه لوجود جيش الاحتلال بالمنطقة "دير بالك، تخليش الأولاد يطلعـ" قطعت كلامها قبل أن تكمل اختها "هيني رايحة أشوف شوكت"، ففتحت باب غرفته لتجد السرير فارغا، اتصلت به عبر الهاتف عدة مرات دون رد.

تستدعي والدته بقية التفاصيل المُرّة "اتصل بي سلفي يسأل عنه، ثم بدأت تتناول مجموعات الوتساب خبر اصابته، لم يمكن ليلة واحدة في غرفة العمليات بحالة خطرة حتى استشهد يوم الجمعة".

في آخر أيامه، اشترى شوكت لشقيقته الصغرى ريم (4 سنوات) وشقيقته المتزوجة أمل ملابس جديدة للعيد، وقام بعمل جلسة تصوير كانت "أجمل ذكرى تركها" لوالدته: "كانت الملابس بيضاء، وقال لي: "سأرتدي نفس اللون لأنه يحبه"، وقدم لشقيقته نقودًا وقال لها بعدما استفسرت عن السبب ممازحًا: "اعتبريها عيدية" يغلب القهر صوت أمه.

"افتتح صالون حلاقة بعد عام ونصف من التدريب، أحضرنا له أثاثا جديدا، والكل كان يحبه، وكان في الصباح يعمل بجنين عند حلاق آخر، ويعود عصرًا يرتاح ساعتين ويفتح محله بقريتنا التي تفتح فيها محال الحلاقة مساءً" هكذا كان يحاول شوكت مساعدة والده العامل.

بعدما ألقت السلام على روحه، وجددت رضاها عليه، قفزت صورةٌ أمامها من آخر أيامه "كان يشتد عليه الألم بعد العملية الجراحية، لكن وبسبب ألمي كوني مريضة، كان يحضر لي الدواء في موعده، يصر علي أن أتناوله".

في حديث من شقيقته الطفلة ريم مع أمها، تعاتب الطفلة نفسها "لو بسته، البوسة الطويلة كان صحي" تقصد القبلة التي كانت تضعها على خد شقيقها حينما يطلب منها أن تقبله، "كانت تعتقد أنها لو قبلته أثناء احضار جثمانه قبلة طويلة ربما أعادته للحياة، وعندما اصطحبتها لزيارة قبره، أجهشت في البكاء، لأنها كانت تعتقد أنها ستراه وستقبله" كانت الزيارة في ثاني أيام العيد، الذي استقبلته على قبر ابنها.

هذا حال عموم عائلات شهداء فلسطين، وخاصةً الشهداء الذين ارتقوا في شهر رمضان وتعيش عائلاتهم أجواء غيابهم الأول في عيد الفطر، كحال عائلتين الشهيدين يوسف صبح وشوكت عابد.