شبكة قدس الإخبارية

محمد الدخيل .. "شبح نابلس" المحرر والمعتقل السياسي الذي ارتقى برفقة البندقية

273490932_310585127803793_2256795271161098615_n
يحيى موسى

نابلس - خاص قدس الإخبارية: آمن أن فلسطين لا تعود إلا من فوهةِ البندقية، وأن الاحتلال لن يرحل بـ "غصنِ زيتون"، وكأنَّ (كنفاني) تغنى به حين قال "أموت وسلاحي بيدي، لا أحيا وسلاحي بيد عدوي"، فسالتْ دماؤه لأجل تعبيد طريق الحرية متحديًا جبروت دولة الاحتلال، كان شبحًا دوَّخ ضباط ومخابرات الاحتلال الإسرائيلي هو ورفاقه المطاردين، ليستشهد محمد الدخيل وفي حضنه بندقيته عندما أعدمته قوةٌ إسرائيلية خاصة في حي "المخفية" بمدينة نابلس.

تتحدى والدة محمد ألمها وحزنها، سائرةً بين جموع مشيعين يزفون إليها محمد عريسًا تحتضن رأسها كوفيةٌ يكسر بياضها خطوط مربعة سمراء، هذه المرة أضيف إليها لون الدم، يغطيه علم فلسطين يردد المشيعون "خلي الشهيد بدمه .. ألف تحية لأمه" ويواسون صبرها بعباراتٍ أخرى "يا أم شهيد نيالك .. ياريت إمي بدالك".

ردت عليهم عندما ألقت نظرة على كفن ابنها ووضعت النعش على كتفها وسارت معهم متماسكة صابرة، تزفه عريسًا وتحنيه بدموعِ عينيها، في لحظةٍ استمدت فيها تماسكها من جبال "النار" في نابلس، ثم رفعت بندقيته في يدها للأعلى وكأنها تجدد مع المشيعين عهد المقاومة، وتسلمهم راية لطالما رفعها محمد، توصيهم بالسير على دربٍ سلكه شهيدها.

12 ساعة، وعشاء

عبر هاتف "قدس الإخبارية" يحاول والد الشهيد أن يمنع دموعًا تسللت من مرافقةِ صوته: "الله يصبرني على فراقه، وينتقم من الظلّام ونحتسبه شهيدًا" .. تمر على حديثه اللحظات الأخيرة التي جمعتهما معًا: "جاء عندي قبل 12 ساعة من استشهاده، تناولنا العشاء وتحدثنا، فقلت له: بصفتي والدك وأخشى عليك فلا أريد أن تغادر البلدة القديمة بنابلس، ومن يريدك فليأتي إليكَ، وقلتُ له أيضًا ولا أعلم ربما شعور داخلي أرسل تنبيهاته داخل قلبي: أشعر أن عملية تصفيتك اقتربت والتشديد عليك زاد، فكان رده غامضًا كالعادة: إن شاء الله لا بروح ولا باجي".

مؤشرات كثيرة اقتادت الأب لهذه النهاية، منها تهديدات ضباط مخابرات الاحتلال يدعى (الكابتن أنور والذي قال له في آخر مكالمة: "خلص الكلام لحد هون وأجي دور الفعل!" بخوف الأب على ابنه سأل الضابط "ايش يعني بدكم تعملوا فيه" لم يتأخر رد الضابط الإسرائيلي: "حكون معك صريح راح أسلمه لفرقة اليمام"- يمام..؟ - بتتخوت عامل حالك مش عارفها! -هاي فرقة تصفية".

نفس الضابط احتدمت مكالمة هاتفية جمعته بمحمد وكان الصوت بينهما أشبه بالصراخ المتبادل حينما افتتح المكالمة: "عامل حالك بطل.. راح ألتقي فيك لما تكون في قبرك".

(محمد) يرد: تعليش صوتك؛ احكي منيح ..

(الضابط): مع مين بتفكر بتحكي

(محمد): أنا مش شايف اللي أكبر منك لما أشوفك

(الضابط) ينفعل ويصرخ بجنون: انت فتحت معي صفحة مليانة دم، راح أشرب من دمك

(محمد) في هدوء وضحكة: بكون شهيد

(الضابط) يواصل الصراخ: انت كبرتها كتير؛ حتى السلطة كانت بدها تغتالك.

نهاية القصة

"كنت أشعر أن لحظة النهاية اقتربت، وتفاجأت أنه ذهب إلى حي "المخفية" وقتها كنت في العمل وجاءني اتصالٌ يخبرني بقيام سيارتين مدنيتين بداخلهما قوةٌ خاصة بإعدام محمد الدخيل وأدهم مبروك (الشيشاني) وأشرف مبسلط، ثم سمعت الخبر عبر الإذاعات ورأيت الفيديو الذي رآه الجميع لعملية المباغتة والإعدام من مسافة صفر، كان المشهدُ مؤلمًا، وكأنَّي فقدتُ جزءًا من جسدي".

يرثي فراق نجله "اللحظات مؤلمة، كأنَّ روحًا تخرجُ منك، ابنك الذي ربيته من دم قلبي وكبرته، وأصبح شابًا محترمًا خلوقًا لا يكسر كلمة لي، يتمناه أي أب، لذلك لم أستطع الذهاب ورؤية الحدث عن كثب ولن أذهب لتلك المنطقة مطلقًا".

علامات استفهام كثيرة حول طريقة استشهاد نجله لا زالت تغزو تفكيره "ما حدث خطة محكمة يراد منها عدم الفشل، ليس فقط من الاحتلال بل هناك أيادٍ أخرى لذلك كانت متقنة وكنت أخشى من هذه اللحظة وحذرته من أي غدرٍ وقلت له: اذا أجاك تلفون وقلك أبوك انقتل وتعال بمكان لا تروح، لكن الغريب أنه في وقت الجريمة لم يوجد إنسان يسير بالطريق ولا سيارة أيضًا ثم تم تطويق السيارة ومباغتتهم".

تسبق علامة تعجب كبيرة سؤاله "معقول عمله منع تجول في هديك المنطقة" معتقدًا أنه جرى تهيئة المكان لارتكاب الجريمة بدليل أن طائرة استطلاع إسرائيلية ظلت تراقب السيارة من الجو من لحظة انطلاقتهم حتى لحظة مباغتتهم.

يسأله والده في إحدى الجلسات التي تكررت كثيرًا بينهما: "لمين بتعمل هيك" ويقصد المقاومة، كان جواب الابن نابعًا من حسه الوطني وإدراكه أن فلسطين تحتاجه وتناديه لردع المستوطنين ووقف غطرسة جيش الاحتلال: "اذا بتفكر بعمل هيك عشان أي انسان فأنت غلطان" يعلق والده بعد أن ألقى على روحه السلام قائلا: "كان كلامه معي مختصرًا، وكان الناس يحبونه ولم يرفع يده أو بندقيته على أي إنسان".

حب منذ الطفولة

صورةٌ تجمع بين إطارها "طفل صغير يبتسم للكاميرا يقف بين مجموعة مقاومين يحملون أسلحتهم"، الطفل الصغير هو محمد الذي أكمل الحلقة الأخيرة في رحيل كل من في الصورة، بعدما استشهدوا جميعًا برحيله، يفتش والده في شريط الذكريات باحثًا عن حب المقاومة في طفولة ابنه قائلاً: "عندما كنت أفتقده أنا ووالدته كنت أسأل الناس عن أماكن وجود المقاومين والمطاردين، لذلك عشت الصورة التي نشرت اليوم وكأن المصور احتفظ بها لأجل هذه اللحظة واقعًا".

مع ولادة انتفاضة الأقصى واندلاع شراراته، ولد أيضًا محمد في 21 فبراير/ شباط 2000 ، وفي أكتوبر/ تشرين أول من العام ذاته استشهد عمه الذي يحمل نفس الاسم، ولم يصبر محمد الذي عشق المقاومة كثيرًا للانخراط في العمل الوطني فمجرد أن بلغ السادسة عشر من عمره قام بتنفيذ أول عملٍ وهي العملية الوحيدة التي يعرف والده تفاصيلها: "صنع عبوة ناسفة بنفسه، يومها صدمت لأن الكبار لا يستطيعون تصنيعها، وزرعها في منطقة خالية وجرى اعتقاله ستة أشهر عند السلطة الفلسطينية ومثلها تقريبا عند الاحتلال".

لا تفر تلك الحادثة من ذاكرة والده: "حين جرت تلك المحاولة اتصل ضابط من مخابرات الاحتلال نفسه الذي ظل بعدها يلاحق ابني و (يدعى كابتن انور) وجرى اعتقاله فورا".

لم يعش محمد بعدها حياة طبيعيةً، ترك المدرسة وانخرط في العمل مع والده في "سيارة أجرة" ثم في أعمال النجارة وفي شركة أمن خاصة، وبسبب الملاحقة ترك بيت عائلته ليعش مع جدته بالبلدة القديمة في نابلس، "كان شغله الشاغل هو الشهادة أو التحرير، فوجئت لاحقا بأنه يملك بندقية أم 16 ويطلبه الاحتلال، نفس الضابط كان يتصل علي كثيرًا لمعرفة مكان محمد، وكنت دائمًا استغرب سبب كل هذا الإصرار لديهم، عما فعله ليكون مطلوبًا بهذا الشكل، وكان يكتفي بالقول إنه لم يفعل شيئًا وفقط (نريده)".

ولادة بطل

محمد الذي لم يزد عمره عن 22 عامًا، وضع له والده كل متاعٍ لثنيه عن مسارٍ قد يكون أقصر الطرق إلى الموت، صوت والده ارتدى ثوب الحزن هنا "بنيت له شقة، وعرضت عليه الزواج لكنه كان يرفض متذرعًا أنه لا زال صغيرًا على الزواج، وكأنه يريد أن يقول لي عبارات لم ينطقها: أني لن أعيش طويلاً لأتزوج".

محمد صاحب اللحية الكثيفة بمستوى قبضة يد، رفيع الوجه ومستقيم كاستقامة بندقيةٍ موجهة على صدر عدوه، عيناه واسعتان منهما عرف حدود الوطن فلم يضل الطريق أو يحيد عنه كانتا تقذفان المحتل جمرًا ونارًا حينما كان يغمض واحدة وينظر بأخرى من منظار بندقيته في كل مرةٍ شارك بنشاط مقاومٍ.

هذه الحياة كلها ظلت غامضة عن والده "كان يخفي عني هذا الجانب من حياته، رغم أنني مدركٌ لحجم دوره، فكثيرًا كان ضابط المخابرات يتصل بي ليسأل عن مكانه".

وبينما كان ضباط مخابرات الاحتلال يسخرون عيونهم للبحث عنه، عاش محمد سنواته الأخيرة عند جدته المسنة، وهنا ظهرت شخصية أخرى "كان يخدم جدته، وعندما تمرض كان يأخذها للمشفى بدون إشعارنا (..) حينما علمت جدته باستشهاده بكت بشدة وحزنت حزنًا شديدًا" يقول والده.

رثاه الفنان سعيد شبارو وعزفُ فيه لحن البطولة "محمد دخيل وما يمهه يروي الأرض يسقيها بدمه، جابوه لتحنيه أمه عريسك يا جبل النارِ"

لم تنحنِ صلابة محمد رغم كل المطاردة والملاحقة والتهديد باغتياله، صفاتٌ قال عنها (درويش) لمحمد وأمثاله ممن ولدتهم فلسطين: "علمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتبِ وبيتي كوخُ ناطورٍ من الأعوادِ والقصبِ (...) وكفّي صلبةٌ كالصخرِ تخمشُ من يلامسُها".

بإعدامه اعتقد الاحتلال أنه أغلق صفحة الدم، لكنه أعلن ولادة "بطل" وأيقونة جديدة لنابلس كان فيها "الشبح" الذي لم ترفع مخابرات الاحتلال الوصول إليه، وأن الصفحة التي أغلقها الاحتلال سيفتحها رفاق محمد ممن سيحملون رايةَ المقاومة من بعده

#نابلس #محمد_الدخيل #شهداء_نابلس