شبكة قدس الإخبارية

بعد "صدمتها الأولى" أفاقت على انكسار جديد

في محطة انتظار طويلة.. قطار الموت خطف الأسير سامي العمور من قلب خطيبته غادة

3545هغ.JPG
يحيى اليعقوبي

قطاع غزة - خاص قُدس الإخبارية: رغم مسافةِ البعد بينهما وطول الفترة المتبقية له خلف القضبان؛ كان أقرب إليها من جفنيّ عيناها، كأنهما يعيشان تحتَ سقفٍ واحدٍ لا تفرقهما أغلال، لطالما آنسته في عالمه المظلم وأوقدت شموع الفرح في عتمة السجون، تهوِّن عليه مرارة الحكم المثقل بتسعة عشر عامًا، مدةٌ ينعزل فيها عن العالم الخارجي أو كأدق تعبيرٍ عن "الحياة" فلا حياة بمعناها يمكن إطلاقها على من تنبض روحه فقط في أماكن يقبر فيها الأسرى أحياء.

دائمًا ما تفرض السجون أحكامها على قلوب المحبين، فتقطع حبال التواصل بينهما، كأقسى شعور يواجههم، كل قلب في مكان لا يستطيع الوصول للآخر رغم أنهما يعيشان على أرضٍ واحدة يستظلان تحت ظل السماء نفسها ويشاهدان المطر ذاته، فيصبح سماع صوتهما من خلال هاتف مهرب "أمنية" تبرد نيران الشوق وتطفئ ظمأ الحنين.

 هكذا أيضًا هي الحياة التي عاشها الأسير سامي العمور مع خطيبته غادة أبو جامع التي انتظرته 14 عامًا منذ أسره وكانت تنتظر الخمس سنوات المتبقية على أحر من الجمر ليكمل محكوميته في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

صوت البكاء قادم من طرف سماعة الهاتف، لم يهن عليها "ليش بتبكي يا سامي.. بعرفك راجل قوي!؟"، لكن كان الألم أكبر من أن يختبئ خلف قفصه الصدري، ما لبث أن استعاد صلابته  "أنا بخير؛ ضايلة حابة تكملي معي!؟"، كان ردها جاهزًا كما كررته في مكالمات عديدة وهو الآن أحوج لسماعه في محنته "شو مالك.. معك على الموت".

 هو الآن ينصت لصوت بكائها: "إيش صار بالمستشفى!؟.. ودوك اليهود (الاحتلال) عليها عشان العملية؟"، غزته ضحكة بأشكال مختلفة من المرارة: "ما أنتِ عرفاهم، ممكن أستنى شهر أو أكتر أو سنة حتى يطلعوني"، تغاضت عما تشعر به وحبست دموعها لأجل شحن إرادته "ما تسكت إلهم، ضلك أطلب، وحاسة أنه حترجع بخير زي قبل تضحك عليّ وأضحك عليك"، غفت ابتسامة منه في حضن الألم الذي يعيش به.

لم تصحو على يوم الحرية

لم تمضِ على المكالمة الأخيرة بين الخطيبين سوى ثلاثة أيام، حتى أطل عليها سامي في فجر الخميس (18 نوفمبر/ تشرين ثاني 2021)، بينما أمسكت هاتفها تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لم تكن الإطلالة بمكالمة هاتفية وردتها منه، ولا برسالة أرسلها، تحدق بكل اتساع عينيها لصورته المنشورة على مواقع التواصل، وبالخبر المرفق وكأنها في حلم (استشهاد الأسير سامي العمور في سجون الاحتلال بسبب الإهمال الطبي) وهي التي كانت تغفو عينها كل مساء على يوم حريته.

بينما كانت تجلس هي في محطة انتظار طويلة أخذه قطار الموت معه، وصارت روحه في السماء حيث لا يصله صوتها، ولا كلمة "بحبك" التي كانت تختم بها كل مكالمة كميثاق عهدٍ يتجدد.

حاولت تكذيب نفسها وخبر استشهاده؛ تريد التعلق بأية "قشة أمل تخبرها أنه لا زال حيًا وأن الخبر كان شائعة"، لتحملها مخاوفها للاتصال بسيدة تعمل في هيئة "شؤون الأسرى" هي على تواصل معها وتتابع قضيتها، الأخيرة طلبت منها الانتظار لعشر دقائق لتأكيد الخبر لها.

 كانت الدقائق العشر أطول من المدة التي انتظرت فيها سامي عبر شهور وسنوات، لم تفعل شيئا سوى التحديق بالهاتف، بانتظار "بشارة جديدة"، حينما ردت على المكالمة "طمنيني؛ الله يطمن قلبك"، لكن السيدة لم تحمل ما تمنته غادة بتلك اللهفة التي انقضت فيها على هاتفها: "ما بعرف شو أحكيلك، لكن للأسف؛ الخبر صحيح ربنا يصبرك".

قبل اعتقاله عام 2008، لم يكن يعاني الأسير سامي العمور من أي مشكلة صحية، إلا أن صحته تدهورت نتيجة المماطلة في علاجه بانسداد 4 شرايين على القلب، فاقمتها ظروف اعتقال قاسية تعرض لها، فطوال تلك المدة كان يعاني من ارتفاع ضغط الدم، لم يتكفل الاحتلال إلا بإجراء فحوصات دون تدخل علاجي، مما فاقم حالته.

قبل شهرٍ، تساقطت الأمطار على السجن، هذه اللحظات لا يفوتها سامي، فركض كطائر يفرد جناحيه داخل قفصٍ، يحاول خلق فسحة من المرح وسط أغلال السجن، عبر الهاتف تقص فصول ما جرى مع خطيبها "دخل غرفته في السجن واستبدل ملابسه، فأصابته نزلة برد، تدهورت حالته وصار يتقيأ كثيرًا، أجريت له فحوصات في السجن تبين وجود تطور في انسداد الشريان الرئيسي، وكان يجب إجراء عملية جراحية عاجلة له لكن الاحتلال ماطل فيها كثيرًا إلا عندما فات الأوان في آخر يوم له حينما سقط على الأرض بالسجن" ليكون صوت بكائه آخر شيء سمعته. 

نقل سامي من سجن "نفحة" إلى سجن عسقلان ثم جرى نقله لمستشفى "سوروكا" وخضع لعملية جراحية بعد فوات الأوان، ففشلت، ليرتقي شهيدًا.

 جمرات الحزن توقد نيرانها في صوتها المختنق بالدموع، تستمع "قدس الإخبارية" لصوت القهر المنبعث من قلب غادة أبو جامع: "علمت قبل استشهاده بيوم أنه نقل للعيادة، لكن لم أتوقع أن يرحل ويتركني (..) ما حدث جريمة ارتكبها الاحتلال فسامي منذ شهر وهو يطلب منهم نقله للعلاج بسبب انسداد الشريان الرئيسي في القلب لكنهم تركوه حتى يموت".

أمنية الزيارة التي لم تتم

شقت قلبها تنهيدة أبت دموعها إلا مرافقتها فيها "كانت أمنية حياتي أن أحظى بفرصة لزيارته لو لمرة واحدة، أربع عشرة سنة لم أره".

قبل أربعة عشر عامًا؛ عندما كانت بوادر خطبة بين العائلتين تدق مراسم الفرح، أسر الاحتلال الإسرائيلي سامي العمور بسبب عمله المقاوم، وانقطعت أخباره عن غادة لمدة عام كامل، وكلما كانت تحاول دفعه بعيدًا عن ذاكرتها كان يعود بقوة، حتى جاءت عائلته في ليلة ممطرة -حينما علم أن شابًا تقدم لخطبتها وهناك "موافقة مبدئية من والدها عليه"- تطلب يد ابنتهم.

تطل من نوافذ الذاكرة على تلك الفرحة التي جمعت شتات قلبيهما "خيرني والدي بين العريسين، فاخترت سامي، لأنه متمسكٌ بي ولا أريد أن يفصل السجن مراسم الخطبة التي بدأت فصولها قبل الأسر، لأسنده في محنته، فاعتبرت السنوات التي ستمضي في هذا الانتظار تضحية أقدمها تمامًا كما قدم تضحية لأجل الوطن".

أعطت غادة والدها الموافقة على اختيار قلبها، لكنه عاود تكرار الأمر عليها "لكن سامي ضايله سنوات طويلة؛ فكري منـ..!؟" قطعت عليه إكمال الكلمة "أنا مقررة ومفكرة منيح حستناه لو ضله عشرين سنة كمان"، ودقت فرحةٌ مبتورة طبولها في البيت.

تداهم دمعة صوت غادة عطلت حركة إجابتها "لقد تمت الخطبة وشعرنا بفرحة كبيرة، كان يتمنى عندما يتحرر من الأسر أن يأتيني بزفة شباب من حاجز بيت حانون إلى منزلي ويأخذني معه في زفة لبيتنا الذي خططنا لبنائه في السنوات الأخيرة المتبقية له، كونه قام بمساعدة إخوته في بناء مستقبلهم في فترة أسره الأولى".

"الله يبسط كل واحد، ويعيد كل غايب لمرته وأمه؛ حسبنا الله ونعم الوكيل لم نتمكن من رؤيته حيًا  على الأقل نريد رؤيته شهيدًا" بعد صمتٍ، وبكاء، وطأت عتبة البوح فمها بتلك الكلمات.

غادة التي كانت تبلغ من العمر 18 عامًا لحظة خطبتها وسامي الذي لم يزد عن 26 سنةً، كأي خطبةٍ يتبعها زواج، ظلت تنتظر في محطة طويلة، لتبلغ اليوم الثانية والثلاثين بينما وقف سامي على مشارف الأربعين من عمره، غزاه الشعر الأبيض قبل أوانه، كبرت همومه وهو في عز شبابه، فمن منع زيارة الأهل إلا من ثلاث زيارات استطاع والداه رؤيته فيها في سنة اعتقالها الأولى، إلى منع رؤية خطيبته وإلى مماطلة في العلاج، بهتت ملامحه.

مع إطلالة الواحد من إبريل/ نيسان من كل عام، تطوي غادة كما يطوي والدا سامي عامًا يقربهم أكثر إليه، بـ "النسبة لي كان هذا التاريخ يمثل عيدًا أنني طويت سنة واقتربت منه أكثر، كنت أنتظر طي صفحة عامه الخامس عشر في إبريل القادم، لكنه رحل" قالتها بعدما أخذت نفسًا عميقًا مليئًا بالألم.

 في سبتمبر/ أيلول الماضي أنهى سامي دراسة بكالوريوس علم اجتماع، فقامت غادة بجمع أهله وتنظيم احتفال عائلي به، تحاول إضاءة شمعة فرحٍ جديدة في عتمة السجن وكان ينوي دراسة الماجستير.

 

قلب لم يلتئم

رحيل سامي يضيف جرحًا جديدًا إلى قلبها الذي لم يلتئم بعد، فعام 2018م أفاقت على صدمتها الأولى "وانكسار قلبها" حينما ذهب والدها المزارع إلى أرضه شرق دير البلح، وخلال أدائه الصلاة قنصه جنود الاحتلال، ليلحق به خطيبها الذي وعدها أن يكون لها "أبا وأخًا" من عدو واحدٍ.

خطط الخطيبان كثيرًا لحياتهما بعد الأسر، فقد كانت في المكالمة الهاتفية التي يتوارى خلالها سامي عن عيون السجانين وكاميراتهم، تدور حياتهم اليومية، لم تخلو ذاكرة غادة من بعض الطرائف هنا وسط هذا الجرح "كان يمني النفس أن يرزق بطفل يسميه ياسر عرفات تيمنًا بالرئيس الفلسطيني الراحل أبو عمار، وعندما كنت أنادي بكنية أخرى، كان لا يرد علي، إلا عندما أناديه بالكنية التي يحبها".

كانت "العودة إلى غزة" أمنية سامي التي لم تتحقق إلا محمولاً على الأكتاف بلا روح ولا نبض، وحتى هذا الأمر لن يحدث قبل أربع سنوات إذ يرفض الاحتلال الإفراج عن جثمانه قبل انتهاء محكوميته، في أبشع صور الأسر والتنكيل في قلوب المحبين.

باستشهاد سامي العمور، يضيف الاحتلال رقما جديدا إلى قائمة تضم 227 أسيرًا شهيدًا استشهدوا منذ عام 1967م، منهم 72 شهيدًا نتيجة الإهمال الطبي، لا زال الاحتلال يحتجز ثمانية جثامين، وهم أنيس دولة، وعزيز عويسات، وفارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح، وسعدي الغرابلي، وكمال أبو وعر، حيث تواسي أرواح الشهداء بعضها، كل جثمان رحل ورحلت معه الفرحة من قلوب ذويهم وعائلاتهم بعدما استوطنها الألم كما يستوطن الاحتلال على قلب فلسطين ليظل جرحها نازفًا.


 

#غزة #أسرى #اعتقال #مقاومة #قطاع_غزة #إهمال_طبي #سامي_العمور