شبكة قدس الإخبارية

بعد أن تجرعت حرقة القلب

الشهيد يوسف صبح .. أمه تنتظر "الوداع الأخير" لوحيدها

244200647_138419765165358_7895088799624571427_n
يحيى اليعقوبي

جنين - خاص قُدس الإخبارية: مرَّ أسبوعٌ  حزين بعد رحيل طفلها، الكوابيس لا تفارقها منذ ذاك اليوم، تتفقد غرفته تنظر إلى سريره  الفارغ، تبحث عن صوته في كل أرجاء المنزل كما كان يأتيها من بعيد "يما؛ وينك هيني رجعت!". أجمل صوتٍ سمعته كمعزوفة موسيقية تغازل قلبها، لكنها الآن تحاول استجداء وجوده، تنتظر أن يعود للحياة مرةً أخرى في كل لحظةٍ ترفع الهاتف عند أذنها لتتصل به تنتظر أن يقطع صوته رنين الهاتف: "هيني راجع يما تقلقيش".
تفتح خزانته، تنظر إلى ملابسه المعلقة، تشتم رائحته التي لا زالت عالقة ببعضها وهي تضمها بتنهيدة عميقة، وكأنها بلغت قمة القهر بغمضة طويلة من الحنين المتألم، تخرج كل حزن قلبها، تقف على شرفة المنزل ساعات طويلة تنتظر أن يعود مرة أخرى وترى ابنها، صاحب الوجه المدور كقمر اكتملت استدارته في ليلة "البدر"، شعره النائم للأمام، عيناه الواسعتان تتوقد منهن ثورة مليئة بنظرات الشجاعة، حاجباه مقوسان مثل جناحي صقرٍ يحلق في ربع الوطن، قسمات وجهه اكتسبت ملامح الشجاعة كأنه شاب كبير.
 لكنها لا ترى سوى طيفه كما كان يأتيها على ذات الهيئة في كل مرة يرفض فيها أن تدخل أراضي قريته آليات الاحتلال العسكرية، فيقابله كباقي شبان وأطفال القرى بالحجارة، "روح يا يوسف.. مش راح أنام إلا تاتروح"، حتى لم يرد على رسائلها عبر تطبيق "ماسنجر"، ترفض أن تضع نقطة النهاية في حكاية ابنها.
هذا حال أمٍ قتلت قوات الاحتلال طفلها الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وأعدم من مسافة صفر في 26 سبتمبر/ أيلول 2021م،  فلا زالت دمعتها تتناوب بين السقوط والبقاء بين جفنيها التي انهكها السهر والحزن والتعب والشوق، تنتظر أن تسمع كلماته مرة أخرى.

كيف لأم استقبلت طفلها الوحيد إلى الحياة بين أخواته الأربع، أن تستوعب خبر استشهاده، وأن تعتاد على عدم وجوده بالبيت، على غياب ضحكته، وصوته، وحضوره وإطلالته.
صورة الحدث
صوتها المليء بالوجع عبر الهاتف به ألف صمتٍ  "مرَّ الأسبوع الأول حزينًا، أدخل إلى غرفته أنظر لسريره الفارغ، أبحث عن صوته بكل المنزل، أفتح خزانته أجد ملابسه كما هي، أتذكر لحظة ما كان في البيت يبدل ملابسه ظهرا ومساءً، أذهب لسلة الغسيل وأراها فارغة من ملابسه، أنام في سريره اتأمل في ملامحه التي أراها فيها في سقف الغرفة، تزورني كل جلسات الحديث التي جمعتنا معًا لا أصدق أنه شهيد".
تحرر صوتها من قيود الحزن "في آخر أيام تأثر كباقي الشبان والأطفال بانتزاع ستة أسرى من سجن "جلبوع" لحريتهم، فكان يذهب ليرجم القوات الإسرائيلية المقتحمة للقرية بالحجارة، فكنت أمنعه لأنه وحيدي على أربع بنات (..) في آخر أيام جلست معه وصارحني: "أنا بدي استشهد" كثيرًا ما كان يطلبها، لكن في قرارة نفسي تمر الكلمة عادية لأنه طفل مراهق كنت أراهن على العمر حتى تشغله الحياة، فأجاريه بالصمت".
 لكنه كان يغيب ويرجع لنفسا لطلب يحمل معه موقفًا استفزه: شفتي شو عمله الجيش!؟، فترد عليه ولا تملك باليد حيلة: شو نعمل اسمه محتل لأراضينا، فبقتل أولادنا وبغتصب أراضينا، ثم تسرح به بعيدًا عن الواقع الذي يشغله: بكرا بس تكبر بجوزك على العشرين وبفرح فيك وبنشوف ولادك، ودائمًا يرفض العرض: ما بدي أتزوج.. وين في جيش بدخل القرية بدي اروح.
الساعة الثانية والنصف فجرًا، من السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول، أصوات الرصاص الكثيف وصوت الآليات المدججة، كسرت هدوء المساء في جنين وقراها وكذلك "برقين"، أطفال وشبان ونساء ورجال القرية لم يزرهم النوم أمام أصوات الرصاصة.
 رجفة الخوف التي تجتاح روحها فجأة، حملت بها إلى الاتصال بطفلها، تنصت لأصوات صراخ الشباب حوله وطلقات الرصاص لكنه طمأنها ما أن رد على المكالمة الهاتفية "تخافيش انا بعيد عن الجيش، تقلقيش علي"، عاودت الاتصال بعد عشر دقائق لكن لم يكن صوت طفلها "أنا صاحبه يا خالتي، هسا شوي برجعلك".
 كانت تشعر أن عقارب الساعة تعطلت عن الدوران، كأنها لا تتحرك تخشى على وحيدها، فعاودت الاتصال ورد ذات الشاب، لكنها كسرت أقفال هدوئها "ليش انت بترد.. وين يوسف!؟".. انتهت المكالمة، لكن نيران الخوف ظلت مشتعلة لتتصل مرة أخرى دون استجابة، ومراتٍ أخرى لا حصر لها حتى وصلت الساعة السادسة والنصف صباحًا وبدأت قوات الاحتلال تنسحب من القرية.
نقطة النهاية
تسمع اختناق صوتها بالدموع، بعدما أخذت نفسًا عميقًا مليئًا بالألم "لم يرد أحد على اتصالنا، حتى الساعة السادسة والنصف جاء أحد أصدقائه، احتار الشاب كيف يبدأ، فقال كلمات غير مفهومة "يوسف!" تعطل صوته، فصمت وكانت ملامحه تخبرني أن هناك شيئًا حدث لابني، لم استطع الصبر أكثر فسألته: شو صايرله!؟ فألقى الكلمة دفعة واحدة: مصاب.
مصاب!؟ .. كلمة لم ترق للأم، فهي تحرص على طفلها من الهواء، تخشى عليه من وخزة الإبرة، احتارت أين تذهب وماذا تفعل، حائرة بالسعي بين البيت وسيارة زوجها تطلب منه المرور تحت زخات الرصاص للمشفى، لم تهتم لكل القوات المدججة؛ كان همها فقط الاطمئنان على ابنها.
 هذه المرة تنصت "قدس" لصوت والده وهو يعيد رسم الحدث "بقيت على اتصالٍ معه وكان يرد علي وعلى والدته، كنت أنتظره على الطريق، لكن حينما علمت أنه مصاب ذهبت إلى الحاجز الإسرائيلي على مدخل القرية، إلا أن الجنود  أشهروا نحوي السلاح ومنعوني من التقدم وهددوني بإطلاق النار علي (..) قبل الحدث وكوني أعمل في شركة الكهرباء ذهبت لإصلاح الخطوط التي تعطلت بسبب اقتحام القرية فمنعوني أيضًا، لكن أحد شهود العيان أخبروني أن وضعه حرج".
صهر العائلة، جال على كل مستشفيات جنين، وبحث عن يوسف بين سجلات المصابين، فلم يجده، "حاولنا ننزل أنا وأبوه بالسيارة مرة ثانية صاروا الجيش يطخوا علينا" تضع والدته النقطة الأخيرة في رحلة البحث عن نجلها .. "عثرنا على أصدقائه وشهود عيان، وأخبرنا أنه أصيب بقدمه وترك على الإسفلت، ثم منع جيش الاحتلال أي أحد من اسعافه، وكانوا يطلقون النار على أي شخص يقترب منه، ترك ينزف، وفرغوا رصاصات كثيرة بجسده من مسافة صفر، ثم صعدت آلية عسكرية على جسده قبل أن يحتجزوا جثمانه، وليتها صعدت على جسدي قبل اقترابها منه".
زفة شهيد
نظرت مشدوهةً لا تصدق ما تسمع، تصلبت مشاعرها، وتجمدت الحياة أمامها، غابت بلا وعي، أنيابُ الوجع مغروسة في صوتها "طفل صغير أطلقوا عليه الرصاص، حسبنا الله ونعم الوكيل، لأنه قهرهم فأردوا قهري، والآن أريد جثمان يوسف، لأواريه الثرى وألقي عليه النظرة الأخيرة".
كل هذا جعلها تراجع مواقفه معها، تستحضر كلماته التي كان يقولها لها على سبيل الدعابة – كما تظن -: "يما بتيجي تزوريني على قبري .. زفيني وأنا شهيد"، تعلق: "كل تفكيره كان في هذا الاتجاه، عاش حياته بطلا شجاعا لم يخف، قلبه قوي وجريء يرفض أن يرى جنود الاحتلال بقريته، أما علينا فكان حنونًا (..) كنت أتوقع أن يأتيني خبر إصابته أو اعتقاله، من شدة ما يذهب لمواجهة الاحتلال ورميهم بالحجارة بالمظاهرات الشعبية التي يشارك بها، تخليت أني يأتيني في يوم شهيد وكنت أدعي أن يطيل  الله هذا اليوم حتى يكبر".
تتحسر على روح طفلها "هو ما عاش طفولته التي كبر على رائحة الشهداء والدم والتشييع، لكني رأيته يكبر أمام عيني سعيدة به".
"الله يرضى عنه، ويجمعنا فيه بجنات النعيم، طلب الشهادة من قلبه وربنا أعطاه إياها".. تلقي على روحه السلام.
في مقطع مصور أرسله لها أحد أصدقاء ابنها، يظهر يوسف ممددًا على الأرض مغمضًا عينيه يشيعه صديقه "يوسف الشهيد الحي .. الشهيد القادم" ثم تفتحت عيناه وبانت ابتسامته بنرجسية تامة،  يتحرك صوت الأنشودة المرافق للمقطع: "قمري الشهيد .. عمري الوحيد .. حضن الردى بعد الصمود .. ومضى إلى دار الخلود"، كانت دموعها تنصب على وجنتيها وهي تشاهد المشهد.
تلسعها حرقة القلب بلهجة أهل قرية برقين "كنت أمنعه من الخروج وأخاف عليه كأي أم، أصبر عليه تاينام عشان مايطلعش.. هو بكون عامل حاله نايم – هدا طبعا لما يفوت الجيش القرية – فلم أتأكد أنه نام .. نسكر الأبواب، عشان إن فتح نسمعه، بس هو كان يطلع من السطح، فأقوم اطمن انه نايم بسريره، وكنت ما أجده وألاقي باب السطح مفتوح، ولما يرجع أصعب عليه من خوفي عليه".
مراسم ولادته تقفز أمام حديث والده "كان جده وجدته سعيدين بولادته وقدومه للدنيا، هما متوفيان الآن، لم تسعنا الفرحة بقدومه (..) رسمت له مستقبلا كبيرًا بأن أراه عريسًا، حتى أني أوصيت أقاربي بالاعتناء به في حال حدث لي مكروهًا".
يطفو على ذاكرة الأب موقف من حياة طفله "في إحدى المرات اتصل على البيت وحمدت الله أنه لم يخرج للمواجهات، وكانت شديدة بين الشبان وقوات الاحتلال، لكنه رد بابتسامته الودودة لي: كنت موجود بس خفت أنادي عليك وانت معلق على عمود الكهربا، تسيب شغلك وتضلك خايف علي".
أحب يوسف تربية القطط والكلاب، دائما يحب الزراعة بساحة منزله، وبداخله كان ينمو حب فلسطين أكثر فأكثر، ثم ينصب أوتاد خيمته لكي يستقبل أصدقائه على موقد النار والحطب، لم تنس والدته المسبحة التي أحضرها لها من المسجد الأقصى خلال زيارته له العام الماضي، لم يملك سوى "الحجر .. والله أكبر" ليقاوم به الاحتلال كغيره من الشبان.

#الاحتلال #جنين #شهيد #جلبوع #نفق الحرية #يوسف صبح