شبكة قدس الإخبارية

أحمد زهران .. فارسٌ امْتَطى صهْوةَ الشَّجاعَةِ ورحلَ بالعلامةِ الكاملَة

163284695738661
يحيى اليعقوبي

غزة - خاص قُدس الإخبارية: أفاقت على صوت زخات رصاصات متواصلة اقتحم صداها فضاء جدران غرفتها  الأربعة، ووصل الفزع إلى أعماق قلبها وتسارعت نبضاته، صعدت إلى سطح المنزل تنظر إلى قرية "بدو" التي هدأ هدير صوت الرصاص، وافترش السكون المكان، تتوارد الأنباء عن "إصابة شابين"؛ يتصدر اسم زوجها أحمد زهران الحديث، صورته تملأ أرجاء المكان، لكنها كانت ترفض ذلك، تتنظر لبارقة أمل لتخبرها أن أحمد على قيد الحياة.

تقف على نوافذ الذاكرة، يقفز صوت أحمد من أحد المواقف التي احتفظت بتفاصيله على جدار قلبها؛ حدث قبل شهر، حينما جلسا على أرجوحة المنزل، يحتسيان القهوة يطوقها بذراعه، فكان فرصةً لأحمد لتهيئة زوجته أسماء عاصي، على سبيل المزاح – هكذا أخبرها – للحظة يدرك أنها حتمية "افترضي أنا شهيد، وجاءت عليك الصحافة؛ تسألك عني.. شو بتحكيلهم!؟" ثم ترك الميكروفون لها ليمنحها فرصة الرد.

 تفتح برعم الابتسامة بين شفتيها، وسكنت في صمت بعدما داهمتها ضحكة قفزت منها: "أحمد مشان الله.. قاعدين ومبسوطين، سيبك من هالمزح"، لكنه أجبر أحبالها الصوتية على التحرك: "والله إنك، بترفعي الراس، وعرفت مين أخدت"؛ أجبرها على مجاراته بالحديث على افتراض أنها الآن ستجيب صحافيًا عنه وهو شهيد: "كنت إنسانًا رائعًا، يكفي أنك مشيت بطريقٍ مشرفٍ، ونلتَ منزلةَ عالية".

اتصال هاتفي يمنحها فسحة للهروب من صدمتها ويعيدها من ذاكرتها، ما إن ردت على المكالمة: "معك الصحافية.."، تخيلت في نفسها أن تحمل المتصلة بشارة  بأن الحياة قد عدلت عن قرار مفارقة جسد أحمد كما يشاع بالأخبار، لكن لدى المتصل شيء غير ذلك".. وصلتنا الأسماء من وزارة الصحة أخرجتها من بارقة الأمل التي حاولت التعلق بها: "الله يصبرك .. فعلا اسم أحمد بين الشهداء"، فتهاوت صلابتها كمدينة ضربها زلزال.

معارك داخلية

مضت روح أحمد، لكنه لم يمض من ذاكرة أسماء التي فتحت أرشيفها لـ "قدس": "حقيقة يا أخي، منذ أقل من شهرين وهو يهيئنا لهذا الموقف، ويتحدث معي بصيغة: إيش يا زوجة الشهيد، لم تمر عليه الظروف السابقة، من الاعتداءات على القدس وانتزع ستة أسرى حريتهم، وما يحدث بالقدس عليه ببساطة، كنت ألحظ التهاب مشاعره أرى ثورة في غيرته على الدين والوطن، كان يلوم نفسه ويشاركني أحيانًا هذا اللوم: "هذا اللي بصير؛ وأنا قادر أواجه.. ليش ما أعمله".

قبل خمسةَ عشر يومًا من استشهاده، اقتحمت قوات الاحتلال منزله، بعد شهرين من مطاردته، وكان يتواجد بداخله، لكنه قفز من سور المنزل وانسحب، فاعتقل الاحتلال عشرة أفراد وهم أخوته وأبناؤهم، كورقة ضغط عليه لتسليم نفسه، بقية التفاصيل تقفز إلى صوت زوجته "في الصباح، جاء للمنزل فكنت خائفة عليه وكان لا بد من وقفة هنا".

- خلص يا أحمد سلم نفسك زي أخوتك..

- إنت مجنونة!؟.. مستحيل أعمل هيك

- لازم أعلم عليهم 

صارحها أكثر "بدك تعرفي، إنه أنا يا إما جريح أو أسير أو شهيد؛ فوين بتكوني مطمئنة علي؟".. فكان ردها مخالفا لتوقعاته "مع إخوتك"، رفع عينيه نحوها، نظراته كانت متبعرثة مكررًا السؤال: "وين بتكوني مطمئنة علي؟"، تخرج الكلمات بلا طواعية بعدما فهمت مقصده العنيد: "شهيد" فابتسم ابتسامته الودودة لها، طالبًا منها إسناده بدعائها: "قولي ربنا يسدد خطاك يا أحمد".

"منذ خطوبتنا وبداية زواجنا قبل أربع سنوات، قال لي: "بدك تعرفي إنك خطبتي إنسان مش عادي".. تقف حرقة القلب على مدخل فمها، قبل أن تطأ عتبة البوح: "الله يرضى عليه، الحمد لله طلبها ونالها، فخورة أني عشت معه أربع سنوات اعتقل خلالها لعامين ونصف أي بالكاد قضينا سنة واحدة معًا اخترته بكل حب الله يسعده ويساهل عليه، قبل أن يصطفيه الله شهيدًا، وسنبقى على درب طريقه المشرف".

في آخر شهرين، طارد الاحتلال أحمد وكان لا ينام في منزله، ويظل خارجه ينتظر لآخر الليل ليأتي لمنزله صباحًا، متوقعًا أن تكون هناك مداهمة له، "لحظة اعتقال أشقائه، وانسحابه من المنزل، طلب منا بعدما عاد في الصباح أن ندعو له، مؤكدًا أنه سيستمر على ذات الدرب، حاولت مقاطعته لأنني أريد أن أعيش معه لحظات أخرى: عارفة الدرب اللي إنت ماشي عليه، لكن خليك لمرحلة أهم، تكون بالتحرير، حقيقة لأول مرة أشعر بحرقة قلبه على الوطن: "يا أسماء، ما في أهم من هذا الوقت، فلسطين تريدنا".

صاحب الملامح القوية، شديدة البأس، كان يمتلك قلبًا أبيض حنونًا، تقرب زوجته المجهر على تلك الصفات التي انتزعت منها ابتسامة من وسط حطام الفقد "لديه كمية حنان يعطيه بأي لحظة، سواء في هدوء أو غضب، أذكر عندما كان أسيرًا لدى الاحتلال، وكنا نتحدث عبر الهاتف، ويأتي الأطفال يطلبون مني إيصال السلام، فكان يسأل كثيرًا عن كل طفلٍ فيهم".

بين الحياة ومقارعة الاحتلال، وضع أحمد مخططاته مع أسماء، أولها شراء الخيل، وبعدها سيارة، ثم إكمال دراستها للدكتواره، التناقض الذي رأته بأنه لن يجتمع بشخصية إنسان يقاوم ويلاحقه الاحتلال ويطارده وتلك المخططات، بينما كان هو يراه "ممكنًا" يعيشُ كل لحظة بلحظة، يغوص إلى الماضي على ظهر الخيل، وهو يتسابق على رمال وشوارع قريته، يمتطي جياد الشجاعة ويستل سيف الكرامة، مدركًا أنه "لا يوجد إنسان يموت منتقص العمر".

سجون الاحتلال أكلت من حياته ست سنوات سلط عليه الاحتلال سيف الاعتقال الإداري لأنه لم يستطع انتزاع اعتراف منه،  ومرات عديدة لدى سجون السلطة، "لما كان يجي على البيت كنت أحكيله: بدَو منورة، العصافير بتزقزق، صوت الآذان تغير.. حركة الشجر كل شيء اختلف" قطعت الدموع مسار حديثها.

الخيل روحه

كان للخيل نصيب، من رفق أحمد بالحيوانات، فكانت تمثل له روحه، إحدى خيوله كانت عندما يغيب عنها فترة طويلة تستمر في إثارة الرمال بأقدامها إلى أن يأتي، من هنا يعلق موقف بذاكرة أسماء: "كان لديه خيل تسمى (نايا) يحبها ويراعاها كثيرًا، في إحدى المرات جرحت بحادثٍ، فأحضر الأدوية والضمادات، حتى شعرت بالغيرة من شدة رعايته لها وخروجه المستمر من المنزل".

بعد مكالمة أجرتها معه حينما كان أسيرًا، قرع طارق باب منزلها، في لحظةٍ كانت حزينة على طول فترة غيابه في الأسر، فتحت باب المنزل، لتجد ابنة شقيق زوجها تخرج وردة جورية حمراء من وراء ظهرها تخبرها عن وجهة المرسل "هاي من عمي أحمد .. بحكيلك إنه أنت أغلى شيء بحياته" فملأت الابتسامة أركان وجهها.

تلك التنهيدة! التي رافقها بنفس عميق مليء بالألم، تنقلها على أطلال لحظات لن تعود "يوما أرسل لي قلادة خشبية محفورة باسمي، تزامنت مع يوم زفافي، هذه الهدايا بالتأكيد لا تعوض غيابه لكنها تعطيك فرحة وجرعة صبرٍ".

صوت أمه هنا، كان يضاهي صلابة الجبال "هذا شهيد حبيب ربه، مقعده بالفردوس الأعلى، هذا ما بنبكى عليه، هذا الناس بتهنيني فيه".

ذاكرة والدته تعج بمواقف من شجاعة أحمد في طفولته، تزيح الستار لـ "قدس" عن بعضها، بلهجة أهل قرية "بدو": "من هو طفل صغير عشان بيتنا على الشارع، كان يستقبل دوريات جيش الاحتلال بالحجارة وهم جايين وهم مروحين، شجاع وعنده هيبة وعزيمة ما بتنوصف".

كره أحمد خيانة الوطن والتعاون مع الاحتلال، وإن عثر على أحد هؤلاء كان يعطيه درسًا ويقوم بإهانته، "مالك ومال الناس يا ابني" تستحضر والدة صورة رده على كلامها "هؤلاء ليس لهم ذمة ولا ضمير، لا يستحقون غير الذلة والإهانة، ويجب أن يرون قيمتهم بين الناس لأنهم خانوا شعبهم".

في حوار بين الأم ونجلها بعدما قبل يديها وطلب رضاها كعادته

(أحمد) يسأل: إذا بستشهد بتعيطي علي؟ ..

(الأم) تجيب: صح حرقة القلب فش حدا يطفيها، لكن إذا استشهدت فأنت حبيب ربك

ينصت أحمد لرد والدته عليه "الله يختار الطيبين للشهادة، ولا تعطى لأي أحد، فكثر يذهبون للقاء الاحتلال لا يستشهدون".

باستشهاد أحمد تودع والدته شهيدها الثاني، بعدما استشهد ابنها البكر زهران في أواخر التسعينات، حينما اغتالته قوات الاحتلال بتفجير هاتف به بواسطة عميل زرع بين أصدقائه على أنه رجل أعمال، والآن لا زال يعتقل الاحتلال عشرة من أبنائها وأحفادها، غادرها أحمد قبل خمسة عشر يوما ولم يعد، تنهدت "ياريت اتصل وسمعت صوته".