شبكة قدس الإخبارية

كانوا كـ "خلية نحل" لتعويض دور الأم

على روزنامةِ الانتظار .. أطفالُ الأسيرة أبو كميل يَطْوونَ أيامًا "مُرَّةً"

242613444_3054712091466001_2019886121454055440_n
يحيى اليعقوبي

غزة - خاص قُدس الإخبارية: يلهو أحمد الذي تجاوز عامه السابع أسفل صورة أمه الأسيرة نسرين أبو كميل التي اعتقلها الاحتلال الإسرائيلي  حينما كان رضيعًا لم يتعدى الثمانية أشهرٍ، لا يعرف كثيرًا عن الفقد الذي فاق عليه مبكرًا وسلبَ منه حضن، وصورة، وصوت أمه، التي لا يراها فقط إلا في معلقة في كل غرف وجدران المنزل، أمضى طفولته بعيدًا عن حنانها وهو في أوج حاجته لها.

في المنزل، أمسكت أميرة ابنة السبعة عشر عامًا وشقيقتها ملك التي تصغرها بعامين، قلمًا وشطبتا يومًا جديدًا من "روزنامة" معلقة على مدخل غرفة استقبال الضيوف، يتعارك فيها الانتظار والشوق مع 100 مربع، كل مربع يمثل يومًا يمضي إلى غير رجعة لحظة شطبه، لكن حسابات الانتظار لها قوانينها المختلفة، فهي تؤجج المشاعر وتحرق نيران القلب، فالوقت هنا رغم اقتراب الإفراج عن أمهن بعد نحو أربعة وعشرين يومًا، يمر على قلبيهن أشبه بسلحفاة مسنة تجر خلفها حجارة ثقيلة.

وحدها، تلك المربعات التي كانت تسمع نبضات قلب أميرة وأخوتها المتسابقة على مضمار الشوق، كومة مشاعر مؤججة هنا، مع اقتراب الوقت، فرح، حزن، دموع، سهر، انتظار، لا يعلم بثقلها ووجعها إلا قلوبهم  وتلك الأوراق التي جعلوها مساحةً لتفريغ مشاعرهم، وليتها تستطيع حمل وطأة الأيام المرة التي تساقطت على حياتهم طوال ست سنوات منذ أسر والدتهم عام 2015م.

نسرين أبو كميل، أسرها الاحتلال في 18 تشرين أول/ أكتوبر 2015 عندما اتصلت بها قوات الاحتلال وطلبت منها التوجه إلى معبر بيت حانون/ إيرز لاستلام تصريح زوجها للدخول إلى الأراضي المحتلة عام 1948م، جرى التحقيق معها بشكل قاسٍ ووضعت في زنازين تحقيق سجن "المجدل" لمدة 11 يومًا، تعرضت للضرب بأعقاب البنادق على صدرها مما أثر عليها لاحقًا، وحكمت بالسجن ست سنوات، وهي أم لسبعة أبناء: (فراس 19 عامًا، وفارس 18 عامًا، أميرة 17 عامًا، ملك 15 عاما، داليا 11 عاما، نادين 9 سنوات، وأحمد سبع سنوات).

حمل ثقيل

أسر الاحتلال نسرين وترك لزوجها حملاً ثقيلا برعاية سبعة أبناء، أصغرهم لم يتجاوز عمره ثمانية أشهر، يجلس تحت أربع صور تحيط به من كل جدران غرفة استقبال الضيوف في منزلهم الواقع بحي "تل الهوى" بمدينة غزة، لحظة وصولنا المنزل، تلمح في عينيه نظرة مترعة بحزن لا وصف له، وكأن تلك السنوات بـ "مراراتها" تركت أثرًا على ملامحه، يفتح قلبه لـ "شبكة قدس": "لحظة الاعتقال، كان الأمر صعبًا جدًا بدون زوجة، تجد أمامك سبعة أطفال بلا والدتهم، وأنت لم تعتد على ذلك، لكن الوقت سرقنا شيئًا فشيئًا رغم صعوبة أن تكون الأب والأم معًا، والآن تبقت أيام قليلة، رغم صعوبة الانتظار، هي أيضًا لديها روزنامة داخل السجن وتشطب الأيام كل يومٍ بيومه".

"تخيل لدي أربع بنات وتربيتهن تعتمد على الأم" .. يغوص بمعاناته من الداخل ويراجع تلك الأيام التي ستبقى جاثمة على ذاكرته: " طفلي أحمد الرضيع، كان طوال الوقت بقربي، وعندما عدت إلى العمل أصبحت أتركه عند ابنتي الكبيرة أميرة التي أصبحت تتقلد دور الأم في إدارة شؤون البيت".

"غياب الأم صعب، فما بالك لما ابنك يحتاج أمه وما تكون حواليه، وأنت تيجي تكمل هالدور وما تقدر!" .. طفلتاه أميرة التي لم تتجاوز حينها أحد عشر عامًا، وملك، أخذا بيد شقيقهن يعلمانه الخطوات الأولى بالمشي، يلاحقانه في كل زوايا المنزل، يركضن وراءه لتمرير لقمة لمعدته تبقيه على قيد الحياة.

تتراقص عبارات الفرح بصوت أميرة التي حضرت حديثنا، في لحظة كانت تجهز طعام الغداء لأشقائها، تطير ذاكرتها لبداية رعايتها لشقيقها أحمد وقد أصبحت شابة ولم تعد تلك الطفلة التي تركتها أمها: "أحمد كان أكبر مسؤولية صعبة تقلدتها في لحظة غياب أمي، والآن عمره بلغ سبع سنوات، وكان من حقه أن يعيش طفولته ويتربى بحضن أمه، فقد كان يحتاجها".

في أول أيام أسرها مرض أحمد وأدخل المستشفى لأربعة أيام، تزامن ذلك مع حلول  فصل الشتاء الذي يحتاج به الأطفال لرعاية خاصة، في الملابس والطعام.

بابتسامة ملأت أركان وجهها، أطلقت تنهيدة تجتمع فيها مرارة السنوات الماضية ولهفة أيام قريبة لمعانقة أمها: "الأعوام الماضية علمتنا الكثير من الأشياء، والآن ستأتي أمي لتعوض أحمد عن الحب الذي ضاع منه في ست سنوات".

قبل أن ينفتح برعم الابتسامة بين شفتيها سكنت في صمت، مستديرة النظر نحو الروزنامة، تتسابق عبارات الشوق بالخروج من فمها: "هانت.. لم يتبق سوى أيام قليلة ننتظر أن تمر على أحر من الجمر، وأن يأتي اليوم الذي سنراها فيه، لتكسر قيود السجان، ونحتضنها بعد ست سنوات".

لا زالت اللهفة تحكم قبضتها على صوت أميرة: "بنفكر كل يوم شو راح يصير؛ كيف راح يكون الاستقبال، كل الطلبات اللي طلبتها شو راح نعمل بأول يوم وثاني يوم، والسهرة اللي حتكون موجودة معنا فيها، لتحكيلنا عن شو يلي صار معها بالست سنوات، نتذكر أيام زمان قبل ما يتم اعتقالها". 

خلية نحل

توزعت المسؤولية بين أميرة وأخوتها، عملوا جميعًا كـ "خلية نحل" لتعويض غياب الأم، كل واحد فيهم كان يتولى دورًا، "وزعنا المسؤوليات حتى لا يتراجع مستوانا الدراسي بين من يستلم ترتيب الغرف وغسل الأواني والصحون، وتنظيف البيت، والاعتناء بأحمد وإعداد الطعام.. الخ ".

تقرب المجهر أكثر، لا زالت تقف أمام الروزنامة  "مثلا كان أبي يحضر الغداء في منتصف الليل، ثم نذهب للمدرسة وهو يذهب للعمل وعندما نعود نسخن الطعام مرة أخرى، فكنا نشتهي تذوق الطعام طازجًا كباقي الطلاب".

تنهيدتها هنا خرجت من أعماق قلبها: "ست سنوات حرمنا من تذوق الطعام كباقي الناس وانحرمنا من شغلات كتيرة".

ارتمت ضحكة على وجهها، تلمح نظرات الشوق واللهفة تلمع من عينيها تحدثك عن مخططها في لحظة استقبال والدتها: "سأحضنها وأقبلها، لن أبتعد عنها، لنجلس ونفضفض لبعضنا، نعيش الست سنوات الماضية في ليلة الإفراج، متشوقة لتحدثني عن قصص السجن".

مكالمتان يتيمتان، وردت الأطفال من والدتهم خلال عيد الأضحى وأزمة "فيروس كورونا" من قلب السجن، فيما منعوا من زيارة والدتهم منذ عدة سنوات، كان صوت والدتهم أشبه "بجرعة" تروي ظمأ شوقهم قبل اللقاء المرتقب تحت سقف بيتٍ واحد.

ملك أيضًا كسرت ستار صمتها ولم تبقِ أشواقها حبيسة قلبها: "نتشوق بأن أياما قليلة تفصلنا عن معانقة أمي، لحظة اعتقالها كان عمري تسع سنوات والآن بلغت خمسة عشر عامًا، حرمت كأخوتي من حنانها (..) أتذكر لحظة اتصالها الأخير بنا في العيد وكان صوتها مفاجأة وهدية، أذكر كلماتها لنا وقتها: "يلا ضايل أشهر قليلة، حتى نكون مع بعض ونتجمع كعيلة واحدة".

يتوسد زوج الأسيرة  يده وهو يتأمل الفضاء الواسع أمامه  يسرح في طقم الجلوس القديم والذي تملأ بعض مقاعده الثقوب، وتكسرت أقدام بعضه فهل هذا "يليق باستقبال أسيرة محررة!؟" يتساءل بمرارة فواقع العائلة الاقتصادي حاليًا يقف حائلاً أمام تجهيز البيت لاستقبال زوجته.

 بقربه اشترت أميرة وأخوتها سماعات بسيطة يحاولون تجهيز مراسم فرح ولو كانت بسيطة، في اللحظة الأولى التي ستدخل أمهم عتبات البيت، متشوقين للحظة التي ستنطق بها تلك السماعات لتدوي صدى كلماتها بـ "أعلى صوت": "تزيني يا دارنا بالثوب الغالي، احكيها لأحرارنا رجعوا الغوالي .. يلي ضحوا بأغلى سنين .. صمود بليل الزنازين".

 لكنها ستعود إلى أبنائها بوجه جديد، فقد نهشت الأمراض التي أصابتها في السجن جسدها، فهي مصابة بسرطان في الغدد وتعاني من عدة أمراض منها الضغط  والسكري والكولسترول، كانت قد أجرت عملية استئصال لكتلة من الصدر بعد الألم الشديد الذي رافقها طوال أيام الأسر.