شبكة قدس الإخبارية

"مسجد النبي صموئيل".. عبق الحضارات وصراع الحاضر

159809588344551
خلود الملاح

القدس المحتلة- خاص قُدس الإخبارية: في أعلى قمم العاصمة القدس، وعلى ارتفاع (885 م) فوق سطح البحر، تتفرق بيوت قرية النبي صموئيل القليلة كأنها بذور نثرها الزمان، تلك القرية الواقعة شمال غرب القدس، أصغر شجرة فيها أكبر من عمر المحتل الذي يربض على صدرها، ويزعم ملكيتها، تضم قرية النبي صموئيل صرحاً أثرياً تستمد اسمها منه منذ أن اشرقت شمس الحضارة؛ إنه مسجد النبي صموئيل الذي كافح من أجل هويته فيما مضى وما زال يكافح وسيبقى.

تنسب تسمية قرية النبي صموئيل إلى "صموئيل" إذ يتوقع أن هذه القرية كانت مسقط رأسه ومقام قبره، وكانت تعرف بالعهد الروماني بقرية "مصفاة"، كما وعُرفت أيضاً "ببرج النواطير"، أما في كتب الرحالة فلم يتفق على تسميتها فمنهم من ذكرها "بدير شمويل" ومنهم من ذكرها "بدير صمويل"، فاختلفت التسميات لكن القرية واحدة!... أما بالنسبة لتسميتها الحالية فهي "قرية النبي صموئيل"، فمن صموئيل هذا الذي نسبت له القرية؟ إنه كما ذكرت بعض المصادر آخر قضاة بني إسرائيل، وقد رأى أن قومه قد ابتعدوا عن عبادة الله، فأخذ يسعى لإصلاح حالهم، وإصلاح اعوجاج أخلاقهم، إلا أن المؤرخ الطبري يذكر أنه نبي من أنبياء الله جاء بعد يوشع (عليه السلام)، وبالتالي فهو أول الأنبياء العبرانيين بعد موسى (عليه السلام)، كما وذكرت قصته بالقرآن في سورة البقرة، وإن لم يذكر اسمه صريحاً إنما تمت الإشارة له في عدة مواضع، أما اسمه الصريح فقد ذكر في سفر صموئيل في الكتاب العبري على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، لكننا لا نستطيع أن نجزم بالحقيقة؛ لتعدد الروايات، ونظراً لغياب شواهد أثرية أو كتابية عنه.

ومما لا شك فيه أن فلسطين، كل فلسطين هي أرض قد باركها الله وقد كانت مهوى قلب المؤمنين والأنبياء، والصالحين منذ الأزل، فلا تكاد قرية أو مدينة أو سفح جبل أو طرف صحراء يخلو من مقام، أو مزار، أو شاهد لنبي، أو لرجل صالح، أو لقديس، وكما قال الشاعر تميم البرغوثيك "فيها كل من وطأ الثرى"، وكأن إليها يُجمع من في الارض

خلاصة القول إن "صموئيل" قد يكون نبياً أو رجلاً صالحاً، ونحن هنا بصدد الحديث عن مقام اسمه "مقام النبي صموئيل" في قرية النبي صموئيل.

ضمّت القرية آثاراً كثيرة دلت على تعاقب الحضارات عليها فمر بها الكنعانيون، والفرس، واليونان، والرومان والبيزنطيين الذين بنوا ديراً في القرية حسب بعض الروايات، كما ومرت بها عصور الدولة الإسلامية الأموية والعباسية؛ حيث وجدت آثاراً فخارية تعود لتلك الحقبة، وربما كانت القرية مركزاً لصنع الفخار في ذلك الزمن كما هو متوقع! ولم تتخطاها الحملات الصليبية بل وتركت أثراً فيها وهي كنيسة صليبية يقال إنها بنيت فوق الدير البيزنطي في حوالي عام 1157م، وخلّفوا أيضاً بقايا حظيرة محصنة، وخزانًا منقورًا في الصخر، وصهاريج، وأساسات ومدافن، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وحرر القدس في معركة حطين 1186م وبالتالي تحررت قرى القدس، فحول أجزاء من الكنيسة إلى مسجد، ودمر ما أنشأه الصليبيون من أسوار وأحصنة، ويعود لصلاح الدين الأيوبي الفضل في تأسيس أول تجمع سكني فيها.

وجاء العصر المملوكي والمعروف بأنه أولى للمقامات والقبور مكانة خاصة ومهمة، لذا فيعتقد أن الظاهر بيبرس قد قام ببناء مسجد القرية وتحديداً فوق قبر النبي صموئيل،  وجاء العهد العثماني والذي حول الجزء المتبقي من الكنيسة إلى مسجد بالكامل وذلك عام 1523م، وتألف من ثلاثة طوابق، الطابق الأرضي عبارة عن مغارة، وللمسجد بالطبع مئذنة، وفيه عشر غرف واسعة، كما وتحيط به ساحات كبيرة تحوي آباراً وأشجار زيتون، ، فأولوه عناية خاصة بل وعدوه وقفاً إسلامياً تابعاً لهم.

جاء الاحتلال الإسرائيلي وحمل معه صفحة جديدة من التاريخ، صفحة كتبها بيديه التي لا تعرف سوى الكذب، ونقض الاتفاقيات، بل ونقد الروايات، ليغيب عن هذه القرية التاريخ الجميل الذي حملته بين كل أثر فيها.

 باءت محاولتهم في عام 1948م لاحتلال القرية بالفشل، إلا أنه وفي 1967م احتلت القرية ومارست عليها سياسات التهجير، والهدم، والحصار، وفرضت عليها قيوداً مشددة من منع البناء، ومنع إدخال البضائع الاستهلاكية، والغذائية، والمستلزمات اليومية إلى القرية، فلا يوجد في القرية محل تجاري ولا حتى مركزاً للرعاية الصحية أو حتى مدرسة.

والأدهى من ذلك كله هي تحريفها للتاريخ وتحويل نصف مسجد النبي صموئيل إلى "كنيس يهودي"، على الرغم من أن الحفريات الأثرية التي تجري منذ 1992م لم تظهر أي شيء يدل على آثار يهودية وأن الآثار هي إسلامية وعلى رأسها المسجد التاريخي، والذي يُستولى عليه بشكل تدريجي؛ حيث لم يبق فيه غير قاعة صغيرة لصلاة المسلمين، أما المستوطنين فيقيمون به مختلف طقوسهم التلمودية، ويمضون ليلتي الجمعة والسبت وأيام الأعياد اليهودية هناك، وينامون على سطح المقام وفي مدخله وأمام المسجد دون أن يعترضهم أحد!

وفي عام 1995م أعلن الاحتلال خطته لتحويل القرية إلى منتزه وطني باسم "منتزه النبي صموئيل الوطني" على كامل أرض القرية بما فيها المسجد التاريخي، ولتحقيق هذا الغرض جنحوا إلى اتباع إجراءات مشددة؛ من خلال ضرب المصلين، وإحاطة المسجد بأسلاك شائكة، وكاميرات مراقبة، ويمنع فتح المسجد _أو بالأحرى القاعة الصغيرة التي بقيت للمسلمين_ إلا في أوقات الصلاة ويغلق مباشرة، وقد تحقق الهدف المرجو من الخطة وأصبحت الحديقة تستقطب سائحين وزائرين أجانب وتقدم لهم الرواية الصهيونية على أنها حقيقة مغيبين الرواية الإسلامية والتي هي أصل تاريخ هذا المسجد.

مسجد بأصل تاريخي عريق، جمع تفاصيل بيزنطية وصليبية ومملوكية وعثمانية، عراقة تراكمت فخلفت عبقًا من فنون حضارات مرت عليه، أخذ الإسرائيليون جزءاً منه ليبنوا لأنفسهم تاريخاً كاذباً مختلقاً! وكيف للتاريخ أن يحرف أو يمحى ما دامت كتب التاريخ ضجت به؟ كيف يمحى وآثارٌ وشواهد موجودة بالمكان تحدثت عنه؟ أصحاب الحق التاريخي لا يختلقون الروايات، هم الرواية بالأصل!

المصادر:

دليل قرية النبي صموئيل، معهد الأبحاث التطبيقية "أريج"، 2012.

مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء 8، قسم 2، 1991.

الموسوعة الفلسطينية، المجلد الثالث، فلسطين.

محسن صالح وآخرون، دراسات في التراث الثقافي لمدينة القدس، 2009م.