شبكة قدس الإخبارية

هاتفيًّا... سمع "أبو عودة" أنفاس نجله الأخيرة

96
يحيى اليعقوبي

قطاع غزة- قُدس الإخبارية: جرب أن تكتب حديثًا تبكيه من قبل ومن بعد، حديثًا تودعه قلبك وتقف فارغًا من كل شيء بعد أن تزفره في "وجه" مارس، جرب أن تفتح فمك وتعجز عن الحديث عن ذكرى أليمة استقرت في القلب واستوطنته.

صوت انفجار يخترق أذني وليد أبو عودة، ارتجت معه الغرفة واهتز قلبه، تبعه ثلاثة أصوات انفجارات متتالية، وكان قادمًا من ناحية الأراضي الزراعية شمالي شرقي منطقة بيت "حانون"، ارتجفت أحاسيسه، وافتعل الخوف قلقًا بداخله؛ بعد أن نظر من نافذة الغرفة وشاهد الدخان يتصاعد من منطقة أرضه التي ذهب إليها ابنه ساري (28 عامًا) قبل ساعات لمساعدة عمه في حراثتها.

مرت لحظات أخرى، ارتج الهاتف المحمول في يديه وأخرجه من حالة الخوف، فالمتصل كان ابنه ساري، حينها حدثت قصة يذعر أي أب من حدوثها أو مشاهدتها حتى في الكوابيس والمنام، لكن ما شاهده وليد أبو عودة لم يكن حلمًا، ولا خيالًا بل حقيقة عاش تفاصيلها بدقة، ورآها رأي العين.

30 آذار (مارس) 2018م، يوم لا ينسى في تاريخ الشعب الفلسطيني، ففيه انطلقت مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية، محطة بارزة في نضال الفلسطينيين، في مخيمات العودة بمحاذاة سياج الاحتلال الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة سنة 1948م.

آنذاك قضى ساري وقتًا مع والديه وأطفاله الأربعة، واستأذن أمه لمغادرة المنزل لمساعدة عمه في حراثة الأرض الزراعية القريبة من السياج الفاصل، لكن الأم التي تتابع الأحداث عبرت عن قلقها، ربما كانت تشعر بشيء ما: "يما؛ تروحش على الأرض تزرع (...) إنت شايف الوضع"، لكنه طمأنها: "حابب أساعد عمي بالأرض".

ثمن الإسعاف

ما إن وصل ساري إلى الأرض ومعه أبناء عمه، قابلهم عمه قائلًا: "الدنيا مقلوبة..."، لم يكمل كلامه، حتى أسكته صوت رصاص أصاب جارهم المزارع "حمدان أبو عمشة"، ابتعد الجميع، لكن شهامة ساري دفعته للتقدم نحو جاره محاولًا إسعافه، كان يتقدم خطوات حذرة ببطء، ولا يدري أنه هدف متنقل للاحتلال.

أسند ساري حمدان على كتفه، وبدأ يسير به للأمام يحاول إسعافه، فانهالت عليهما طلقات رشاشة أطلقها الاحتلال، فأردتهما أرضًا، ساد الصمت المكان، كانا وحيدين ثم انهالت عليهما قذائف أخرى، غابت أجسادهما أمام كثافة الغبار بين الحقول الزراعية وتقطعت أشلاؤهما، في جريمة بشعة وثقتها عدسات الكاميرات.

حينها رن هاتفه، استمع لصوت ابنه المتقطع: "يابا، ضربوني بالقذائف"، ونطق بالشهادتين مرتين" وانتهت المكالمة، لكن ظل الصوت يتردد في أذنه إلى اليوم، لا يفارق ذاكرته، يذكره بالجريمة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق نجله المزارع.

بعض المشاهد تبقى مستقرة في الذاكرة لا تمحوها الأيام، يظل صداها يتردد، ضحى ساري بحياته لأجل إسعافه جاره، وسجل الاحتلال الإسرائيلي في سجله الأسود جريمة جديدة ستبقى شاهدة على انتهاك قوانين حقوق الإنسان.

تنهد الأب وكأنه يزيح عن صدره بقايا الحزن من ذلك الحدث، وهو يرويه، واضعًا النقطة الأخيرة في المشهد: "بعد الاتصال، أنهيت المكالمة وغادرت بسيارتي باتجاه الأرض الزراعية، فكانت المسافة التي تفصلنا لا تزيد على 1200 متر، فوصلت قبل سيارات الإسعاف".

لم يكن المشهد سهلًا على قلب الأب، وهو يرى ابنه ممددًا أمامه، فارقته أنفاسه التي سمعها قبل لحظات على الهاتف المحمول، كان صعبًا أن يرى ابنه تمزقه قذائف الاحتلال، بجرأة تجاوز كل ذلك، وحمله في سيارته وعلق قلبه بخيط رفيع من الأمل الذي لم يفقده، وأسعفه بسيارته إلى المشفى، لكن نجله قد فارق الحياة شهيدًا في جريمة ارتكبتها قوات الاحتلال بحقه.

"ما ذنبه؟!"، مرت سنتان على تلك الجريمة، ولا يزال والد الشهيد يعيش على وقع ما حدث، لم يجد إجابة عن سؤاله السابق، رحل ساري شهيدًا، وترك والديه يتجرعان مرارة الرحيل، تذوب كلمات الأب أمام صفات نجله: "لو سألت أهالي بيت حانون، فالجميع يذكر ابني بالخير، كان سمح الوجه، طيب القلب، مطيعًا لنا، أحبه كل من عرفه".

لم يغادر ذاكرتي، اليوم تخيلته وكأنه جاء إلى البيت"، تتوقف والدة الشهيد، التي نابت عن زوجها في الحديث، عند يوم استشهاده، فتلك اللحظة لا تنسى: "رأيت الجيران، والأقارب يتجمعون أسفل المنزل، وكان الجميع يخبرني أن ابني مصاب، لكنني أيقنت أنه شهيد".

"رحل وغادرت بسمته معه" تدغدغ سيرته مشاعر والدته من البداية، تتهيأ لذرف دموعها، وتقول: "ما زالت ذكراه حيَّة إلى اليوم؛ وهذا ما يبرد قلبي".

ذكرى باقية

لم يترك ساري الذكريات فقط لوالديه، بل ترك أطفاله الأربعة، وليد (8 سنوات)، وإسماعيل (6 سنوات)، وعبد الرحمن (5 سنوات)، وآلاء (عامان).

حتى تفاصيل الحزن والوجع هنا مرهقة، بصوت متماسك يخفي بين حروفه حزنًا كبيرًا لم تبح به، تقول: "نحن وأولاده نشعر بحجم الفراق، حتى اليوم يكررون سؤالهم: "وين بابا؟"، وابنه الكبير لا يجد إجابة عن سؤال: "ليش الاحتلال طخه؟"، فأجيبه لأنه ذهب لإحضار لقمة عيشكم".

تعلق وقد تهيأت للدموع مرة أخرى: "وأنت تسمع أسئلتهم تشعر بالألم، وحينما يسمعون الإجابة يتألم الأطفال ويريدون الانتقام ممن حرمهم حضن ودفء وحنان والدهم، مهما حاولنا تعويضهم عن ذاك الغياب".

الأرض نفسها، التي احتضنت ساري وسالت دماؤه على ترابها، كانت قد احتضنت شقيقه الشهيد إسماعيل (17 عامًا)، الذي كانت طريقة قتله مثل طريقة قتل أخيه، وإن اختلف عدد القذائف، تتنهد والدة الشهيد وهي تربط بين الحدثين، وتسيل دموعها هنا: "في الأرض نفسها تركت ذكرى الشهيدين".

تتمالك نفسها وتروي قصة استشهاد إسماعيل: "ذهب إلى الأرض يوم عيد الفطر، مع أصدقائه وأبناء عمه في 12 أيلول (سبتمبر) عام 2010م، وهم يلهون ويتمتعون بشواء اللحوم استهدفهم الاحتلال بالقذائف واستشهد نجلي".

المصدر: يحيى اليعقوبي- فلسطين