شبكة قدس الإخبارية

"محمد" دعا أهله لتناول "الغداء" فلبوا نداء "الجنازة"

"محمد الناعم".. الاحتلال يصلب "الإنسانية" على أنياب جرافاته

911
يحيى اليعقوبي

غزة - خاص قدس الإخبارية: بعد الصبح بقليل؛ أطلق جيش الاحتلال عليه قذيفة؛ ثم أرسلوا جرافة إسرائيلية لتسحب الجثمان .. حاول شبان متواجدين بالمكان، الوصول إليه قبلها فسحبوه لعدة أمتار متجاهلين الرصاص المطلق تجاههم، أحدهم لم يشعر بتلك الرصاصة التي أصابته؛ كان همهم سحب الجسد، لكن أنياب "الكباش الإسرائيلي" وصلت وبدأت بسحق عظام جثة هامدة صعدت روحها في القذيفة الأولى، ثم طمرها بالطين وتقليبها تنكيلا "بدون رحمة".

تكرر الأمر حتى علق سائق "الجرافة" رأس الشاب الممزق جسده بين أنياب كف جرافته، ورفعته إلى الأعلى وكأنها نصبت له مشنقة كانت الحبال هنا أنياب الكباش الذي أحكم قبضته على رقبة جثمان الشهيد محمد علي الناعم (27 عاما)، في مشهد غاب عنه الضمير الإنساني فيمن لا ضمير عندهم، هي في الحقيقة شنقت كل قوانين حقوق الإنسان قبل أن تعلق رقبة جثمان شهيد رحلت روحه وتشنقها بتلك الأنياب.

سارت الجرافة للأمام باتجاه دبابة أخرى.. ارتخى جسده وهدأت أصوات الرصاص يفرد ذراعيه للريح، بجسد وأشلاء ممزقة .. ودماء تسيل، وروح صاعدة، آثار البارود تركت بصمة على ملابسه ، الدماء تتسرب منه، مشهد هز ضمير الإنسانية إلا ضمير سائق الجرافة وقادة الاحتلال الإسرائيلي الذين تباهوا بهذه "الجريمة" التي وثقتها عدسات الكاميرات شرق مدينة خان يونس.

مشرحة ومستشفى

الثالث والعشرون من فبراير/ شباط 2020م، عقارب الساعة وصلت في دورانها عند الثامنة والنصف صباحا، لم يصل الخبر بعد إلى منزل آل "الناعم"؛ والدته "أم حسن" تنظر من نافذ غرفة نجلها "محمد" السابقة والذي انتقل لسكن آخر، وهي تحدث شقيقتها عبر الانترنت إلى ثلاجة الموتى بمستشفى ناصر بمدينة خان يونس المجاورة لمنزلها، مشاركة إياها هذا المشهد: "يختى؛ في ناس عند المشرحة كتيرة، أبصر ايش صاير؟"، لم تجد إجابة لسؤالها لكن الأخيرة قربت الأمر: "الفجر استشهد اثنان على السياج بخان يونس .. والأخبار مقلوبة".

"أم حسن" تعبر عن حزنها بذلك لشقيقتها: "الله يصبر أهله يارب".

انتهت المكالمة مع شقيقتها، لكنها شردت في تفكيرها وبدأت الأسئلة تباغت تفكيرها، فأخذها قلبها إلى عند ابنها، لكنها شردت من هذا التفكير تحدث نفسها: "لو ابني كان حكولي"، وأكملت عملها بالبيت بشكل طبيعي، عادت مرة أخرى فتحت النافذة وجدت أعداد الناس تتزايد بالمشرحة والمستشفى وأمام منزلها، بلحظة لمحت ابنها "بلال" الذي يسكن بغزة متوجها بسرعة، الحركة في الخارج أصبحت غير عادية، هاتف زوجها يرن ارتجف قلبها مع صوت رنين الهاتف وما صاحبه من رجات متعددة، وما أن انهى زوجها الرد على المتصل، قالت له: "ايش بده ابنك برن عليك .. ايش فيه؟"، ليخبرها زوجها بأصعب خبر على قلب أي أم نزل هنا كصاعقة: "مصاب واليهود أخدوه".

زوجته "هبة الكرهلي" لا زالت تتجاهل كل المكالمات الهاتفية الواردة على هاتف زوجها الذي تركه بالبيت، فدائما ترد مكالمات عديدة مثلها، ولم تثر هواجسها كثيرًا، حتى أفزعها صوت رسالة هاتفية ترك صدى صوت الرنين أثره بالغرفة واخترق قلبها وافتعل ضجيجا فيه أخرجها من حالة الهدوء، وأجبرها على فتح الرسالة وما إن قرأت نصها: "نزف الشهيد المغوار محمد علي الناعم" وكأن الدم تجمد في عروقها، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجت دقاته وهي تقرأ الرسالة، مطلقة العنان لدموع حزنها بالجريان على وجنتيها، ولصوتها بالانفجار الذي لم يسمعه غيرها، استحضرت كلماته لها في كل مرة ذهب فيها للسياج الفاصل "تخافيش؛ كلها أمان"، شقيقه بلال والذي كان يشاهد فيديو "الجرافة" بعمله يشارك زميله بمشاعره: "يا الله ما أبشع هالمنظر .. ليش عملوا هيك بهدا الشاب" ولم يعرف أن من في الصورة هو شقيقه حتى جاءه اتصال، وأخبره المتصل، أنه مصاب فربط بين المشهد والاتصال ليعرف أن من شاهده هو شقيقه، وأنه شهيد.

الساعة السابعة مساءً، كانت "فلسطين" حاضرة في بيت العزاء بمدينة خان يونس، هناك ترسم ملامح كل شخص تقابله قهرا على بشاعة الجريمة، تعكسه عيون تسكب أحزانها، وقلوب تئن من الألم وتبكي غضبا، تتشابه مع ما يصدر من مكبرات الصوت في الحزن: "لا تذرفي إن نبؤوك بمصرعي .. هذا انتقامي فاصبري فاسترجعي "، كان الصوت ساكنا سوى صوت ما تصدره المكبرات: "قمري الشهيد .. عمري الوحيد، حضن الردى بعد الصمود ومضى إلى دار الخلود".

صور "محمد" المعلقة على مدخل بيت العزاء وأمام منزله، تروي حكاية شاب بالأمس كان بينهم واليوم أصبح طيفا غاب روحا وجسدا لأن الاحتلال يحتجز جثمانه، بعد أن علق جثته على مشنقة "الجرافة"، وبقيت تلك الصور التي وثقتها ابتسامة تجمد عندها الزمن.

جريمة لا وصف لها

يحاول والده تمالك نفسه لكنه لم يجد وصفا لما حدث مع نجله .. احتارت كلماته هنا: "المشهد بشع ولا وصف له، رغم أنني لم أره ولا أريد رؤيته لأني فهمت مضمونه من الوصف ورأينا كيف ينكلون بالناس بالضفة، لأن هؤلاء (جيش الاحتلال) أناس قذرون يستخدمون أبشع الأساليب في الانتقام من الناس وهذا ما يقهرك".

"أبو حسن" الذي يجلس على كرسي بلاستيكي، كان يحاول الاستمرار بالتماسك قبل أن تغلبه عيونه التي لم تستطع حبس دموعها عائدا لآخر اللحظات مع نجله الشهيد: "كان عندي بالأمس (قبل الاستشهاد بليلة) من الظهر حتى المساء فهو يوميا يزورني، وفي المساء جاء وأخذ زوجته إلى بيته ودعانا إلى طعام الغداء وها اليوم نحن نجلس في العزاء".

يرثي نجله قبل أن يسدل الستار على حديثه مع توافد طابور من المعزين: "هو أصغر أبنائي الذكور الأربعة، كان مرحا يحب الضحك ونيل رضانا".

في داخل منزل والده، الدموع تركت أثرها حول عيني والدة الشهيد بعد أن نال وجع الفراق منها ما ناله منذ الصباح، تنهيدات الوجع التي تخرج من حنجرتها "المحروقة"، تروي مائة حكاية من الألم، تقاطع الدموع صوتها: "حرام عليهم اللي عملوه فينا .. مش استشهد شو بدهم هيك يعملوا فيه".

النسوة يتجمعن حولها وهي تتحدث لنا بصالة استقبال الضيوف؛ تهيأت عيناها بعدما أبرقت، ذرفت دمعة وتبعتها أخرى بعد أن روت التفاصيل السابقة، لا يفر المشهد الأخير لها مع ابنها من حديثها: "جاءني الساعة العاشرة مساءً، يحمل طفله "حمزة" وكان سعيدا ينادي علي؛ وقال لي: "شوفي يما حمزة ما أحلاه .. جاي أفرجيه على بيته"، فقلت له: "شكلك حنيت لغرفتك"، ودعاني للغداء غدا (يوم استشهاده)".

"بنجيك يوم وظيفتك" .. بتلك الدعوات من أمه غادر محمد وانتهى المشهد هنا.

هل رأيت الفيديو؟ .. لا زالت الدموع تجتاح عيون والدة الشهيد، وما أصعب لغة العيون في التعبير عن الحزن، فترد بتنهيدة أخرى: "مش قادرة أشوفه من بشاعة الوصف .. فكيف اذا شفته؟".

"حمزة" بلا "إجابة"

تجلس "أم حسن" تحتضن بين ذراعيها الرضيع "حمزة" ، الذي أصبح يتيما بين ليلة وضحاها، يرى الدموع حوله تنساب من كل العيون هنا، جاهلا ما يحدث، يلتفت بنظراته يبحث بين الحاضرين عن حضن ودفء والده لكنه لم يجد الإجابة، تمسح جدته على رأسه بعد أن بللته دموعها .. تسكن صوتها بدعوات الصبر: "حسبي الله ونعم الوكيل في اللي عمل فينا هيك".

"محمد حنون، يحب أن يمشي الجميع على السراط، بتمنى كل أم يكون لديها ولد مثله، أتذكره يوم زفافه انحنى أمام قدمي ليقبلها، رغم أن حالتي المادية أفضل منه لكنه كان يصر على إعطائي طامعا بأن ينال الرضى" سكت الصوت وأكملت العيون رواية حكاية أم فارقت نجلها، حتى مواراته الثرى حرمت منها.

أمام بيت الشهيد ترى مسالك وطرق معبدة متعددة، قصى الزقزوق ابن شقيقه الشهيد، يستند إلى باب أحد الحواصل لعله يحمل شيئا من وجعه على فراق خاله، قائلا والدموع تقاطع حديثه ما أن بدأ بالحديث: "أتدري؛ هذه الطرق أشرف خالي "محمد" الذي عمل مهندسا مساحا بعقد مؤقت مع بلدية خان يونس لمدة ثمانية أشهر على تعبيدها؛ ومؤخرا تقاضى آخر راتب شهره الأخير ".

تزور حديثه كلمات خاله له، كانت أشبه بوصية: "دائما كان يوصيني بالصدق والأمانة، ويقول لي: "خلي الك على الناس ولا الناس بدها منك"، مبديا حسرته وهو يمسح دموعه بيده: "دعاني لزيارته لأجلس معه"، يحرر كلماته بحسرة: "ياريتني قعدت معه .. نياله اللي بقعد مع الناس اللي بحبهم".

المصدر: فلسطين أون لاين