شبكة قدس الإخبارية

في ذكرى الثورة الجزائرية.. فلسطين والجزائر بين ثورتين (١)

nov-9999x9999-c
خالد بركات

لم يَترُك الشعب الجزائري وسيلة سِلّمية واحدة " للتفاهم " مع المُستعمر الفرنسي إلا وجرّبها، ولا طريق لتحقيق السلام إلا وسار عليه مُناشدات، عرائض، بيّانات، وشكاوى ومؤتمرات ، وفي كل مرّة كان يأتي رد فرنسا هو ذاته لا يتغير: مَجزرة جديدة وحملة اعتقالات، والمزيد من الاستيطان ومن القوانين الاستعمارية والعنصرية. وكان المُستعمر الفرنسي يرفع إصبعه ويهدد ويتوعد ويردد شعاره الوحيد: الجزائر فرنسية وستبقى فرنسية الى الأبد “!

حتى التيّار السيّاسي الرّئيسي في البلاد كان يحمل اسم "حركة السِلم والديمقراطية" و "حركة الحُرّيات والديموقراطية" وجَد نفسه أمام جدار أخير.. لا حل ولا طريق!

وفي يوم الثامن من مايو 1945 أقدمت فرنسا على جريمة بشعة حَفرت أثرها عَميقًا في صدور وقلوب الجزائريين والجزائريات، لقد نقضت بوعدها في منح الشعب الجزائري استقلاله وقَتَلت وأحرقت فرنسا عشرات الآف من الجزائرين في المدن وعشرات الآف مثلهم من الفلاحين والفقراء في الريف ، أبادت قبائل جزائرية بأكملها، وحدث كل هذا في عدة ايام. كانوا يحشرون الناس في أنفاق وكهوف صخرية يجري إغلاقها من الطرفين لتصبح أفران حجرية ومحارق جماعيّة.

وتقول الوثائق إن فرنسا قتلت نحو 45 ألف من الجزائرين والجزائريات لأنهم خرجوا إلى الشوارع في مسيرات واحتفالات عامة بنهاية الحرب العالمية الثانية يطالبون فرنسا ان تفي بوعدها وتمنح الجزائر الاستقلال كما وعدت. .

التقديرات الجزائرية تقول أنه قضى نحو 50 ـ 55 ألف شهيد وشهيدة في "مجازر 8 ماي" وربما أكثر. هذه المجزرة الرّهيبة لا تقل سوءًا عن نقض العهد والخديعة، وشكلت الى جانب عوامل و أسباب كثيرة، لا حصر لها، ولادة طريق جديد للشعب وستدفع الشباب الجزائري الطليعي الثوريّ إلى المُسارعة نحو حمل السلاح وتأسيس أولى الخلايا الثورية المُسلحة في الجزائر وانتخاب قيادة من 6 أشخاص.

استمر العمل السرّي في الإعداد والتدريب العسكري وجمع السلاح والمال والعتاد، وفي يوم 1 نوفمبر 1954 أعلنت جبهة التحرير في بيانها الأول عن انطلاقة الثورة الجزائرية المُسلحة لتحرير الجزائر من الاستعمار ونيّل الاستقلال .

لم يكُن بيانًا عَرمريًا طويلا وناريًا كحال بيانات الأحزاب الفلسطينية والعربية اليوم، بل كان بيانًا قصيرًا جدًا يحمُل 3 مطالب رئيسية عادلة، واضحة، ومفهومة، إلتقطها كل الشعب والتف حولها وكأن قصيدة الشاعر مُفدي زكريا التي ستصبح فيما بعد النشيد الوطني الجزائري ولدت في ذاك البيان التاريخي "يا فرنسا قد مَضى وقت العتابْ/ فاستعدي وخُذي منّا الجوابْ" وفي ذاك اليوم شنّت قوات الثورة سلسلة عمليات واسعة ومُوجعة وناجحة في كل عموم الجزائر.

كانت القوات الفرنسية في حينها تقدر بنحو 30 ألفًا الى جانب الآف من الشرطة وكتائب شبه عسكرية من المستوطنين، فيما كان عدد المجاهدين وخلايا الفدائيين 3000 مُقاتلًا، وحين خرجت فرنسا بعد 7 سنوات من الصراع الدامي، كانت قد وصلت الجيوش الفرنسية إلى نحو 2 مليون ونصف جندي ومسلح وعدد المجاهدين الثوار تراوح بين 25 ـ 30 ألفًا.

العُملاء المحّليين الأكثر خطرًا على الثورة والشعب كان اسمهم "الحِرّكيين" هؤلاء تعاونوا مع المستعمر الفرنسُي وكتائب الموت (الكف الاسود) وحين هُزم واندحر الاستعمار خرجوا معه يجرّون خلفهم ذيول الخزي والعار، وقد ألقت بهم فرنسا في مزابل باريس وفي أكواخ بائسة ولم تمنحهم أي حقوق بل ولم تكترث بهم كل الحكومات الفرنسية المتعاقبة حتى يومنا هذا، وهناك حملة اليوم من أبناء وأحفاد هؤلاء يطلبون اليوم العفو والعودة إلى الجزائر.

لم تكن الثورة الجزائرية التي انطلقت يوم الأول من نوفمبر 1954 هي الثورة الوحيدة التي إنطلقت في الجزائر ضد المُستعمر الفرنسي فالتاريخ الجزائري حافلٌ بالنضال وبالعديد من الثورات والانتفاضات الشعبية المسلحة التي كانت تنفجر وتخبو ثم تنفجر مرّة أخرى، وشملت:

- مُقاومة الأمير عبد القادر الجزائري التي امتدت من 1832 إلى 1847 في الشمال الجزائري.

- مقاومة أحمد باي من 1837 إلى 1848 وشملت منطقة قسنطينة.

- ثورة محمد بن عبد الله الملقب بومعزة، من 1845 إلى 1847 بالشلف والحضنة والتيطري.

- مقاومة الزعاطشة من 1848 إلى 1849 بالزعاطشة (بسكرة) والأوراس. ومن أهم قادتها بوزيان بو عمار

- مقاومة الأغواط وتقرت من 1852 إلى 1854 تحت قيادة الشريف محمد بن عبد الله بن سليمان.

- ثورة القبائل من 1851 إلى 1857 بقيادة لالة فاطمة نسومر والشريف بوبغلة الذي انطلق من منطقة العذاورة.

- ثورة أولاد سيدي الشيخ من 1864 إلى 1880 بواحة البيض وجبل عمور ومنطقة التيطري، سور الغزلان والعذاورة وتيارت بقيادة سليمان بن حمزة، أحمد بن حمزة، سي لتعلي.

- مقاومة الشيخ المقراني من 1871 إلى 1872 بكل من برج بوعريريج، مجانة، سطيف، تيزي وزو، ذراع الميزان، باتنة، سور الغزلان، العذاورة ،الحضنة.

- ثورة 1871 في جيجل والشمال القسنطيني

- مقاومة الشيخ بوعمامة 1881-1883 ،وشملت عين الصفراء، تيارت، سعيدة، عين صالح.

- مقاومة التوارق من 1916 إلى 1919 بتاغيت، الهقار، جانت، ميزاب، ورقلة، بقيادة الشيخ أمود.

....

نعم، لم تكن أول ثورة جزائرية في مواجهة الاستعمار إلا انها كانت الثورة التي انتصرت وحققت الاستقلال الوطني وهزمت إحتلال أجنبي للبلاد ذو طبيعة استعمارية استيطانية عنصرية دام 132 سنة

وانتصرت الثورة هذه المرة لأسباب كثيرة في مُقدمتها وحدة الشعب الجزائري وعدالة القضية والوضوح في الرؤية السياسية لقيادة الثورة وشموليتها. كما أن زيادة الوعي وارتفاع معدلات التعليم ومعرفة لغة وثقافة العدوّ والاستفادة من النتائج التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتراجع دور فرنسا الدولي وتوفر الدعم العربي الشعبي خاصة من شعوب ودول الجوار ومصر الناصرية ، فضلا عن حالة التضامن الأممية للثورة داخل فرنسا وفي عموم القارة الافريقية.. كل هذه العوامل كان لها اثرها الكبير على تحقيق النصر، والأهم دائمًا دماء الشهداء وإرادة المُقاتل/ والشعب الجزائري وتضحياته الجسام في سبيل حُرّيته وكرّامته ولتحرير وطنه من الاستعمار وانتزاع حقه في الاستقلال الوطني في 3 يوليو تموز 1962.

الجزائر وفلسطين :

إن العلاقة بين الجزائر وفلسطين هي علاقة تاريخية خاصة وعميقة تجمع الشعبين والتجربتين ولها خصوصيتها ورمزيتها الهامة التي تتجاوز الحديث التقليدي المُكرر عن "علاقة الأشقاء" و"الأمة الواحدة"، فالشعب الجزائري ينظر إلى قضية فلسطين باعتبارها عقيدة لا يمكن المساس بها أو التخلي عنها، وأنها قضية وطنية جزائرية، وجزء لا يتجزأ من تركيبة المجتمع الثقافية والانسانية ومن الشخصية الجزائرية، ولذلك كان لانتصار الثورة الجزائرية أثره المباشر على قضية الشعب الفلسطيني وعلى الشباب الفلسطيني الطليعي على نحو خاص الذي وجد مثلا ونموذجا وحاضنة شعبية في الجزائر المُحررة، وحيث سيبدأ من هناك التدريب والتسلح وتأسيس أولى قواعد الفدائيين لانطلاق ثورته من أجل تحرير فلسطين.

إن السؤال الكبير والجارح الذي يجب طرحه اليوم من قبل الشعبين في ذكرى انتصار ثورة الجزائر، وفي هذه العلاقة الجزائرية الفلسطينية هو: أين وصلت مآلات الثورتيين الجزائرية والفلسطينية؟ وهل حققت الثورة الجزائرية أهدافها الكبرى تمامًا وكسرت قوى الاستعمار والاستغلال؟ أم أن هناك شعورا عارمًا ان الثورة والدولة قد جرى اختطافهما من قبل طبقة ارتهنت بالكامل للاجنبي، وهذا بالضبط ما يجعل الجماهير الجزائرية والفلسطينية اليوم تهتف معاً: باعونا الخونة، فلا تزال طريق التحرر الوطني والإجتماعي طويلة وشاقة تحتاج إلى تجديد ثورة شعبية ولو باشكال مختلفة.. لتصل إلى شواطىء النصر والتحرير الشامل والكامل للأرض والإنسان.

يتبع...