شبكة قدس الإخبارية

خمسون عاماً: الأقصى حيّ فينا رغم الحريق

42
زياد ابحيص

عامان بعد احتلال القدس، كان الظن بأن المعركة حُسمت، وأن ما تبقى لتغيير وجهها وطمس معالمها لم يكن إلا الوقت. جماعات المعبد الصهيونية المتطرفة لم تكن قد نشأت، والتيار المؤسس لها كان يقتصر على مدارس دينية من الخارج، وكانت الأعمال الفردية طريق هذا التيار في التعبير عن نفسه وعن أحلامه، فجاء هجومهم الأول والأكبر في حينه بإحراق المصلى القبلي، وأبدت الحكومة الصهيونية –"اليسارية" حينها- استعداداً مبكراً للتعاطف مع أجندتهم ودعمها بقطع المياه وإبطاء وصول طواقم الإطفاء لعل الحريق يوقع أكبر قدرٍ من الضرر، وهذا ما كان.

في الإثر مرت خمسون عاماً، تنامى نفوذ جماعات المعبد حتى بات لها ائتلاف مؤسسات يضم نحو 25 هيئة ومؤسسة، وصعد اليمين الصهيوني حتى بات يحكم منفرداً، وصعدت جماعات المعبد لتتحول إلى كتلة سياسية عابرة للأحزاب وحاسمة التأثير في تشكيل الائتلاف الحاكم. في بداية صعودها عام 2003 كان لها نائبان وفي الكنيست الأخير 2015 كان لها 15 نائباً، في عام 2009 بالكاد تمكنت من الوصول إلى موقع نائب وزير، واليوم وزرائها لهم ثلث حكومة نتنياهو ومقعدان في الحكومة الأمنية المصغرة.

مع بداية الاحتلال كانت تفصح عن نفسها في أفعال فردية، واليوم باتت أجندتها هدفاً مركزياً للحكومة الصهيونية تتحرك من أجله كل أذرعها السياسية والأمنية واللوجستية. في اقتحام عيد الأضحى مؤخراً كان وزير الأمن الداخلي ينسق مع جماعات الهيكل بشكلٍ حثيث متبنياً أجندتهم، وكان قائد شرطة القدس دورون ياديد هو من يشرف على الاقتحام بنفسه، فيما كان مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هو من أدار الحرب النفسية حين سرب خبراً كاذباً لإيهام المرابطين أنه سيمنع المتطرفين الصهاينة من الاقتحام، لعله يخلي أمامهم الطريق.

هذا الصعود التاريخي للخطر على المسجد الأقصى المبارك هو الأول من بين ثلاثة اتجاهات تاريخية للتغير على مدى خمسين عاماً من إحراق المسجد. أما الاتجاه الثاني فهو تردي النظام الرسمي العربي وانهيار دوله القطرية، نتيجة فشلها في المهمات الأساسية للدول وأبرزها الدفاع الخارجي والنهضة والتعامل مع التحديات الداخلية، ولعل هذه كانت النتيجة الحتمية للتجزئة التي تشكل وصفة فشلٍ مستدام لمكوناتها.

بعد حريق المسجد الأقصى المبارك تداعى النظام الرسمي العربي وعدد من الدول الإسلامية إلى قمة تأسست على أثرها منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تحولت لاحقاً إلى منظمة التعاون الإسلامي، وبخلاف الجامعة العربية لم تؤسس منظمة المؤتمر الإسلامي لـ"نظام رسمي" يجمع أعضاءها بمعنى الكلمة، وبقيت شكلاً تنسيقياً رخواً يستدعى في الملمات، وتتنافس فيه الدول الإسلامية الكبرى في تجاذب النفوذ.

إذا كان الحريق حينها قد أسس لمحاولةٍ تنسيقية بين الدول الإسلامية، فالخطر المتنامي على الأقصى اليوم يواجه بفراغٍ عربي يشمل انهيار وتراجع دوله المركزية، وهرولة من تبقى منها إلى التطبيع بحثاً عن استدامة المظلة الأمريكية عليها، وتفكك أي حالة تنسيقية بين تلك المكونات. إذا كانت الدول والنظام الرسمي –على ضعفه- عنوان الدفاع عن الأقصى في الستينات من خلال فعلٍ سياسي ضاغط ومنسق، فاليوم بات هذا اللاعب خارج الميدان تقريباً، بل إن جزءاً مما تبقى منه يحاول الانتقال إلى المعسكر الآخر.

في المقابل حضر الفعل الشعبي المقدسي والفلسطيني ليتصدر المعركة وكان هذا الاتجاه المركزي الثالث للتغيير، من 2010-2015 حضر الرباط المنظم الذي منع التقسيم الزماني على مدى سنوات خمس، فاضطر الاحتلال إلى ضربه وضرب مؤسساته والحركة السياسية التي كانت تقوده، لعل وجه الأقصى يخلو له. مع محاولة فرض التقسيم الزماني التام بإغلاق الأقصى تماماً أمام المسلمين ومنع الأذان والصلاة فيه في أعياد اليهود انطلق شكل جديد من أشكال الدفاع الشعبي عن الأقصى بهبة السكاكين وعمليات المبادرة الفردية، تلته هبة باب الأسباط 7-2017 بمعادلة ثلاثية من عمليات المبادرة الفردية والاعتصام الجماهيري والدعم الخارجي، وأخيراً هبة باب الرحمة 2-2019 التي قطعت الطريق على محاولة التقسيم المكاني بالرباط الجماهيري وحده.

على مدى خمسين عاماً تصاعد الخطر وتعاظمت أسبابه حتى بتنا أمام جبهتين في فلسطين المحتلة: الأقصى وغزة، وانكفأ النظام الرسمي العربي وخرج تقريباً من معادلة الفعل وانتقل جزء منه إلى مربع التطبيع، وحضر بالمقابل الفعل الشعبي بأدوات متجددة منعت التقسيم في ردعٍ جماهيري فعال على مدى تسع سنواتٍ خلت على الأقل، وهي عملياً امتداد لانتفاضة 1987 وهبة 1996 وانتفاضة الأقصى عام 2000.

على مدى خمسين عاماً كان الأقصى حياً في القلوب والعقول، وشكل قيمة استطاعت استعادة إرادة المقاومة في ظروف التنسيق الأمني وتراجع قدرة الفصائل الفلسطينية، فكان باعثاً للمقاومة محركاً للإرادة، كان المقدس قيمةً قبل أن يكون مكاناً أو حجراً، وهذا ما يخطئ كثير من المثقفين فيه حين ينقدون التركيز عليه بمقولة مسطحة: "البشر أهم من الحجر"؛ فالمقدس ليس حجراً، بل قيمة تشع نوراً في قلوب البشر وعقولهم تشدهم للدفاع عن الحق ورفض الظلم والعدوان، فلو قبلوا الضيم لأنفسهم وفي حياتهم فلا يقبلونه لرمزهم وأقصاهم، هو رايتهم المرفوعة، وطريق عبورهم من الاستكانة إلى الفعل... ليس هذا نظماً أدبياً، بل قراءةٌ شهدت بها الوقائع، فكل الهبات الشعبية ما بعد أوسلو كان عنوانها الأقصى، كلها بلا استثناء.

ما ينقص هذه المعادلة هو أن ندركها، أن نتوقف عن العويل والبكاء على العجز العربي، والتهويل والتخويف من التطبيع العربي وكأنه سيقوض وجودنا وينهي قدرتنا على خوض المعركة، هو مدانٌ وساقطٌ نعم، ويستحقّ كل الإنكار؛ لكن ينبغي أن لا يكون عنوان وعيٍ وهمي يهول علينا ويمنعنا من خوض معركة الأقصى بكفاءة.

هذه المعركة تقتضي منا في خارج القدس ثلاثة واجباتٍ مركزية لا عذر لنا في المجموع إن فرطنا فيها: أن نصحب كل فعلٍ جماهيري مقدسي برديفٍ له في الخارج يمنع الاستفراد به، ويقف إلى جانبه، وأن نعمق الخطاب الإعلامي الذي يتناول معركة الأقصى ونخرج به من الصراخ والتهويل إلى تشخيص عناصر المعركة وأصول خوضها، وأن نصل إلى المقدسيين بالدعم المادي الذي يعزز صمودهم، عبر عملٍ فردي ومؤسسي يتصدى للمسؤولية ولا يبحث عن شماعاتٍ يعلق عليها عجزه.

#حي_فينا