شبكة قدس الإخبارية

"الأدهم" صاحب السترة "المرقعة... بكى بولادة زوجته وقاتل بالأحزمة الناسفة

94
يحيى موسى

غزّة- خاص قُدس الإخبارية: يرن هاتف "حنان الأدهم 24 عامًا"؛ ردت على المكالمة الهاتفية وكان المتصل زميلها بالمحاماة. "وين زوجك محمود؟" دون ريبة أجابته: "ذهب للعمل؛ هاتفته مفتوح، اتصل به"، أنهى المتصل المكالمة ربما خشي أن يزلزل قلبها؛ مرت ثوان، ثم وصلتها رسالة هاتفية من نفس المتصل فيما لم يستطع البوح به كتبه نصًا: "محمود تعبان شوي هو بالمشفى الآن".

نبضات قلبها بدأت تضطرب اشتغلت معها كل أحاسيسها، في وقت لم تستطع وضع نقطة النهاية لتفكيرها حول ما جرى لزوجها الذي يعمل في قوات حماة الثغور (الضبط الميداني) وكانت تعلم أنه يتواجد على السياج الحدودي بمنطقة بيت حانون شمال قطاع غزة، تركت كل شيء بيدها وخرجت لتجد ابن أخ زوجها أمامها؛ تسأله بصوت مرتجف: "ايش صاير مع محمود؟" إجابته كانت كصاعقة نزلت على قلبها: "زوجك مصاب" فعزمت على الذهاب لمستشفى بيت حانون.

دراجة ومتسللين

قبل الاتصال عاد محمود من ليلة رباط (فجر الخميس 11 تموز)، استبدل ثيابه العسكرية الخضراء، بأخرى صحراوية المخصصة لعمله في الضبط الميداني، علمًا أنه قد بدأ العمل بالضبط قبل أربعة أشهر، استقل دراجة نارية قديمة اشتراها قبل يومين، وكان هذا المشوار الأول له بها، شاءت الأقدار أن يتم استبدال دوام محمود في هذا اليوم إذ كان مقررا أن يعمل بنقطة حماة الثغور شرق منطقة أبو صفية شمال القطاع، لكن مسؤوله ألح عليه تغيير النقطة معللًا: "هناك متسللين كثر، ومنطقة بيت حانون حساسة وأنت من يستطيع ضبطها"، فاستجاب.

سترة بنية مرقعة بعدد من الثقوب، لا يجرؤ الكثيرون منا على الخروج بها، لكن محمود الذي رفع شعار "الزهد" منهجًا في حياته كان لا يخجل متعففًا، التقطت له هذه الصورة وحققت انتشارًا كبيرًا على منصات الإعلام.

"قرب الساعة التاسعة صباحًا من يوم الخميس؛ لاحظ محمود اثنين من المتسللين على وشك قطع السياج وتسليم أنفسهم لجنود الاحتلال المتواجدين عند السياج الفاصل شمال بيت حانون، فسارع الأدهم إليهم وأوقفهم وأمسكهم، وعندما استدار ممسكًا إياهم، أطلق أحد الجنود رصاصة متفجرة غادرة عليه أسفل البطن وظل ينزف لمدة نصف ساعة والاحتلال يمنع عملية إسعافه". هذا ما استهل قائد فصيل بـ "كتائب القسام" حديثه لشبكة "قدس" الإخبارية.

المسعف يروي المشهد

في تلك اللحظة تلقى فريق الإسعاف بالهلال الأحمر الفلسطيني إشارة بوجود مصاب وما هي دقائق حتى وصلت سيارة الإسعاف المكان، لا يفر المشهد من ذاكرتهم فقد كانت لحظة خطرة، يروي أحدهم لـ "قدس" ما حدث: "وصلنا بعد ثلاث دقائق من الإشارة، كان ملقى على الأرض على جنبه، فور وصولنا كانت القبعة تغطي وجه، حاول أن يسند نفسه وينهض رغم الألم والنزيف الكبير (..) كان يقاوم الإصابة، وساعدنا في خلع "الجعبة العسكرية" وتركنا سلاحه على الأرض، وضعناه على الحمالة، وقمنا بوقف النزيف بالإسعاف، حالته كانت خطرة، فالرصاصة متفجرة لها مدخل (أسفل البطن جهة الكلى) ومخرج بـ "العصعص/ جب الذنب"، وإحدى الشظايا سببت قطعًا بالشريان "الأورطي" المغذي للقلب.

يسأله أحد أفراد الفريق المسعف، محمود عن اسمه، فعرف عن نفسه: "أنا محمود أحمد الأدهم؟"، ثم سأله عن عمره فأجابه: "27 عامًا"، أرد التأكد من صحته موهمًا بأنه لم يسمع العمر: "هل قلت 45 عامًا؟ أم 35 عامًا؟" نظر للمسعف وقد اقترب الجفن من الحاجب متألما: "27" وفي الطريق بدأ يفقد الوعي ووصل إلى مستشفى بيت حانون وانتهت مهمة الاسعاف.

بعد دقائق وصلت زوجته للمشفى؛ تسأل عنه تريد رؤيته حتى تهدأ نيران القلق المشتعلة في قلبها، بالبداية أخبروها بأن إصابته بالقدم، ثم حالته الصحية جيدة، وتدرجت المعلومات من الممرضين وأصدقاء زوجها وأهله لتخفيف خبر الصدمة حتى دخلت عليه ووجدته كـ "الملائكة" ممدًا شهيدًا مبتسمًا، رحل زوجها محمود دون استئذان، تنظر إليه تريد أن يكون ما تراه حلما لتستيقظ منه، تساقطت دموعها، وفاض القلب وجعًا.

المكالمة الأخيرة لـ "حنان"

الأربعاء الماضي، عادت زوجته "حنان الأدهم" من عملها بالمحاماة تسأل عنه فلم تجده، عرفت أنه ذهب لعمله، اتصلت به: "تطولش ابنك أحمد (ستة شهور) مشتاقلك" بهذه الكلمات أوصته قبل إنهاء المكالمة الهاتفية، واستشهد الخميس.

في بيت العزاء، قالت زوجته لمراسل "قدس الإخبارية"، إن زوجها "محمود مرضي الوالدين والزوج، فخورة لأن الله أعطاني زوج أفتخر فيه لأني سأقول لابني حينما يكبر أن والدك بطل (..) أي كرامة هذه وكل الدنيا تعرفه الآن وله ابتسامة تشرح القلب".

وبالعودة لبداية حياتهما، تذكرت حنان وقالت، "حينما تقدم لي محمود لم أنظر للمال فالجميع مدح أخلاقه"، تكمل مفتخرة: "لا يجب أن ننظر للمظاهر بل لنقاء القلب والأخلاق، شاهدوا جنازته كانت كبيرة والجميع حزن عليه، أي أنا بكرامة والحمد لله".

وفي التفاصيل، فإنه حين علم مسؤوله بأنه اشترى دراجة نارية "مستعملة من ابن عمه"، أرسله لنقطة بعيدة (ببيت حانون) كون أصبح معه وسيلة نقل، وكأن كل هذه الأشياء كانت مقدرة حتى ينال هذه المنزلة العالية.

وعن ابنها الصغير أحمد، "منذ يومين لاستشهاد والده لا ينام الليل، وكأنه يشعر أن والده غير موجود، عندما يأتي من العمل يركض متلهفًا لاحتضان ابنه وحمله ومداعبته، ينزل به إلى الشارع عندما تكون درجات الحرارة مرتفعة (..) كان بشوش الوجه بالدنيا فظلت ظاهرة عليه عند رحيله".

أمنية وهدية وذكرى وحيدة

قبل استشهاده بيومين، قالت حنان لزوجها إنها تتمنى أن تقتني هاتفاً محمولًا من نوع معين، لكنها لم تطلبه أو تصر عليه لأنها تقدر وضعه المادي، لكنه "خرج من البيت وعاد بعد لحظات ومعه نفس الهاتف، وقد اشتراه بنظام الأقساط، كانت لحظة سعيدة جدًا ومفاجأة بالنسبة لي"

ومن مواقفه التي ترويها أيضًا، "مرضت أمي وهي "أرملة" وأجريت لها عملية جراحية مكث زوجي معها يوم العملية، وظلت تتعالج أربعين يومًا كان يذهب إليها كل يوم، ويأمرني بالذهاب عندها ويقول لها: "سألبي ما تطلبين؟"، واليوم والدتي لم تتقبل رحيله وأنها لن ترى ضحكته.

وعندما ولدت أحمد لم يتركني، كان يجلس عند رأسي، ويمسك بيدي، يخفف عني، ويبكي لوجعي، يريد فعل أي شيء لإيقاف الوجع يأتي بالمسكنات، ويخفف عني بالكلمات".

الشهر المقبل، (أب/ أغسطس) ستكون حنان على موعد مع ذكرى ارتباطها وزواجها الثانية من محمود؛ رحل محمود وبقي طيفه يذكرها به، ربما ستعيش تلك الذكرى على قبره، ستخبره أن جرح الفراق لم يضمد.

أما والده الذي فضحته دموعه، كان يلتقطها بقميصه وهو يستقبل المعزين، يقول لـ "قدس": "محمود من خيرة الشباب مطيع لوالديه، من شدة بره بنا لو قلت له اذهب للبحر سيذهب (..) لا أنسى عندما التحق بالقسام وكان صغيرًا جدًا قلت له: هذا الطريق صعب، فأجابني: "أريد الشهادة أنا عاشقها عشق وإن شاء الله تكون نهاية عمري شهادة" وها قد تحقق ما أراد ورحل لم يجرح أحدًا".

ما قصة الحزام الناسف؟

إن كان محمود تمتع بتلك الصفات اجتماعيا؟ فماذا عن حياته العسكرية في المقاومة؟ جلسنا مع قائد الفصيل الذي يعمل به محمود بكتائب القسام (لواء الشمال)، وتحدث: "التحق محمود بالقسام مبكرًا عام 2005م، تميز بعسكريته وجديته ونشاطه.

شارك في حرب الفراق عام 2008 وكان ضمن وحدة الاستشهاديين يتقدم الصفوف الأولى وكان له دور كبير في التصدي لقوات الاحتلال الراجلة، كُلف بالعديد من المهمات التي نجى منها وبعد الحرب أصبح قائد مجموعة بالقسام، وكان ضمن مجموعة مميزة".

لا يزال القائد القسامي يستند على كرسي بلاستيكي ومن حوله أفراد من الكتائب يستمعون إليه، ويضيف: "في معركة "العصف المأكول" عمل محمود ضمن وحدة الاستشهاديين ومعه حزام ناسف مكلف به لأي مهمة عسكرية، عمل في وحدة الأنفاق كمسؤول إشراف على حفر الأنفاق بالمناطق الشرقية، واختير لوحدة الأنفاق المركزية على مستوى لواء الشمال، وعمل ضابطا بوحدة الاتصالات الأرضية، وآخر شيء عمل مع "قوات حماة الثغور"، وحاصل على دورات عسكرية متقدمة فاجتاز دورة "النخبة" ودورة "إنزال" و"قنص" وله دور مميز بمجالات عسكرية واسعة".

"فارقنا محمود والبسمة لم تفارق وجهه الطيب، اصطفاه الله وهو يمارس عمله المقاوم، تميز بصفات لا يمتلكها أي مقاوم، فكان حريصا على مساعدة الفقراء رغم صغر سنه، وكان لا يمل عن ذلك، يضحي بجل وقته وماله في إسعاد الناس، لا يعد للدنيا أي أهمية، كان له دور في تجنيد واستيعاب المجاهدين" ولا زال الكلام للقائد.

الرباط كان آخر عمل جمع محمود بقائده وزملائه بالقسام، لم ينس قائده هذه الليلة: "كنا نرابط بخط متقدم شرق جباليا، كعادته كان محمود ضحوكًا انتهى من الرباط وذهب لعمله" قبل أن نسدل الستار على هذه القصة يقول أحد أقرب رفاقه ويدعى (أبو أحمد) كان مرابطًا معه أيضًا: "كانت ليلة هادئة جميلة، استند برأسه علي وكان ينظر للسماء نظرات غريبة وكأنها نظرات وداع، بعدها نهض وأعد لي كأسا من الشاي وقال: "هذا أطيب شاي تذوقته في حياتي".