شبكة قدس الإخبارية

تقريرعنيّر وعيونه المفقوعة

IMG_8381
شذى حمّاد

رام الله المحتلة – خاص قدس الإخبارية: الباب مشرع، بجانبه سقطت يافطة دخيلة تحمل أحرفاً عبرية، لا صوت لصلوات في الداخل، وحدها شجرة التوت ما زالت واقفة بلا أوراق وبأغصان ميتة، وفي المحيط يعلو حفيف أوراق البلوط، ويقترب خرير الماء شيئاً فشيئاً، يلاحقنا، ويحاصرنا.

إلى جذر شجرة التوت التي تتجاوز سنينها المئة، يشير نعمان وما زالت عيونه تدور في المكان وتتفقده، "هنا قرصت أفعى عمي وهو يقلم الشجرة، فمات على الفور". ينتقل بخطوتين إلى الباب الثاني، ويشير إلى الخارج، "هناك خلف هذه الأشجار التي لم تكن، يوجد مغارة، دخلها اثنان من شباب القرية ولم يخرجوا منها حتى الآن.. المنطقة مليئة بالمغر".

IMG_8403

عنيّر –الرجل الصالح- الذي لا قصة حقيقة له يجمع عليها أهالي رأس كركر والقرى المجاورة، أطلق اسمه على المنطقة، وبُني فيها مقاماً خاصاً له كان يشهد موسماً سنوياَ يشارك به أهالي غرب رام الله القادمين بأمنياتهم، حاملين الهدايا المتمثلة بالزيت والبخور.

وما أن ينته الموسم، يجمع الشيخ طالب رسلان ما اكتظ به المقام من هدايا، ويستبدلها بالشمع والكبريت والسجاد ويعود بها إلى المكان، استعداداً للموسم القادم.

ولكن! موسم تقديم الأمنيات لعنيّر لم يأت مجدداً، تبددت أصوات المستغيثين تحقيق أمنياتهم، لا رائحة بخور في المكان العاري من السجاد الذي سُرق، والخشوع الذي كان يخيمه طيف عنيّر على قلوب أصحاب المُنى، تلاشى.

اسم المكان الذي كان يخبأ أمنيات البسطاء، حُرف إلى آخر عبري "شيرا"، ولكن اللوحة الدخيلة لم تبق كثيراً، وستسقط بين الحجارة وتصبح لا تُرى.. هل أسقطها طيف عنّير أم أحد ورثة أصحاب الأماني؟.. لا يهم!

وترى ندوباً واضحة حُفرت في حجارة المقام بحثاً عن ذهب أُهدى يوما ما إلى عنيّر أو خُبأ لديه، ولكن الأمانة ما زالت مصانة! لا آثاراً في المكان تشير لنجاح اللص بانتزاع شيء من عنّير العنيد.

IMG_8404

وكما عنيّر، تفاحه النادر أيضاً لم يعد موجوداً، وكأن عاصفة اقتلعته ولم تبق منه أثراً، لا جذراً ولا جذعاً، بعدما كانت رأس كركر تنتج من التفاح سنوياً (2-3) طن، "تفاح ليس شبيه بالتفاح الجولاني أو التفاح الشامي.. ثمرة تفاح طويلة نسميها "الدٌّوْلِي"، يبلغ ارتفاع الشجر منه (5-6) أمتار"، يصف نعمان نوفل (64عاماً) التفاح الذي لم يعد منه سوى سيرته، مشيراً إلى أن شجر "الدٌّوْلِي"، بدأ يختفي منذ احتلال القرية عام 1967 تزامناً مع مصادرة أراضيها وتهجير أصحابها.

بين أشجار تفاح عنيّر وبلوطها، كبُر نعمان حتى بلغ 12 عاماً قبل أن يُهجر وعائلته عن الأرض التي سيبقى يعود إليها، فإلى هنا كانت تنتقل عائلته في فصل الصيف برفقة أهالي قريتي رأس كركر ودير عمار، ملتجئين إلى عيون عنيّر التي تفجرت في أراضيهم، يقطفون التفاح والحمضيات، يحصدون حقولهم المزروعة بالقمح والشعير والعدس، ثم يدرسون محاصيلهم قبل مقايضتها أو بيعها في الأسواق.

اليوم، على مدخل أراضي عنيّر نصب الاحتلال صرحاً حجرياً على شكل ورقة يلفظه المكان بكل ما فيه، حُفر عليه اسم "حديقة الفتية"، يمر بجانبها نعمان ثابتاً وكأنه أحد عناصر المكان الذي لا يُرى إلا به ومعه.

IMG_8388
 

لعائلة نعمان 12 دونماً من أراضي عنيّر، يزورها اليوم كغريب، يُطارد فيها، يُضرب، قبل أن يجمع غلته من الزيتون، فقدومه إلى هنا بات مشروطاً بموسم الزراعة، فيما يسرح المستوطنون طوال الوقت بحراسة جنود الاحتلال، "قبل شهور اشتريت خمس دونمات جديدة هنا.. إذا لم اشتر أنا، فمن سيشتريها؟!" يقول نعمان وهو يمشي في ظلال أشجار البلوط وصولاً إلى إحدى عيونها، وما زال خلفه يمشي ثلاثة من جنود الاحتلال، يتبعون خطواته، ويراقبونه، "لو كنت وحدي، للاحقني المستوطنون وضربوني وطردوني.. هذا ما يجري في كل مرة يأتي أحدنا إلى هنا".

لا يتوقف نعمان عن التغزل بالمكان، "حتى البلوط الموجود في عنيّر، لا نجده في أي مكان آخر"، يقطف نعمان من نبتة المرمية يقبلها ويواصل شمها وكأنه لا يتنفس إلا عبرها، "هنا تختلف نكهة كل شيء وتصبح الألذ.. ما تبقى من مرمية وزعتر ونعنع وليمون، وحتى الماء، كل شيء هنا له نكهته المختلفة". كل ما ذكر يقطفه اليوم أصحابه سراً من أراضيهم، خوفاً من غرامات باهظة يلاحقهم بها مُستعمر المكان.

يعلو خرير الماء مجدداً، منبئاً بوجود واحد من ينابيع عنيّر التي يتراوح عددها بين 20-25 نبعاً تفجر ليبث الروح في الأرض، حفر لها الأجداد قنوات وبرك لتسهيل نقل المياه منها، ويشهد ما تبقى من أعمدة حجرية محطمة لم تطلها يد الاحتلال التي طالت الكثير من آثار المنطقة ونقلتها إلى متاحفها، أن الحضارة الرومانية امتدت إلى هنا، حيث كانت إحدى مدنها.

ينحني نعمان ليملأ كفيه، يرفع يديه بحذر نحو فمه، ثم يشرب وكأنه يعاني العطش منذ أيام، "في عام 1992 فحصنا هذه مياه ينابيع عنيّر في مختبرات جامعة بيرزيت، وقد بلغت نسبة نقاوتها 98%"، يعبأ نعمان كفيه مرة أخرى، وهو ينظر دون ملل مراقباً المياه المتفجرة من الصخر، "تناقلنا من أجدادنا أن نشرب من هذه العين، باعتباره غير مكشوفة واعتقدوا أنها الأساس... ولكن لا نشرب من هناك، رغم أن المياه هنا وهناك ذاتها".

عند كل عين، تم شق قناة وحفر بركة لتسهيل عملية تجميع المياه ثم ري أشجار التفاح والحمضيات والمحاصيل المختلفة التي كان يزرعها الفلاح في أرضه هنا، ففي كل قطعة أرض في عنيّر، تسمع خرير المياه على طوال السنة قبل أن تراه يتجمع في البركة.

أحد المستوطنين بلباسه الديني وحوله أربعة من أبنائه يجلس بالقرب من إحدى البرك، قبل أن يستنفر لرؤية نعمان ومجموعة فلسطينيين آخرين، ينهض خائفاً ليغادر المكان، يمشي بضع خطوات، وما أن يطمن لوجود جنود الاحتلال، يعود مجدداً، يلف وجهه ليصبح مطلاً على منازل رأس كركر، ويبدأ بتأدية صلوات تلمودية.

IMG_8358

ينتقل نعمان إلى عين أخرى من عيون عنيّر، التي كان يغتسل بها أهالي رأس كركر معتقدين أنها فيها شفاء لأن الشمس لا تراها، ينزل الدرج الحجري الواقع بين النبعة والبركة، "لم نعد نقترب من هذه العين، كما لم نعد نغتسل بها ونلمسها.. المستوطنون يغتسلون هنا!"، ثم يشير إلى البركة القريبة، "زرعوا السمك الملون في البرك.. سرقوا كل ما في المكان وحول للتنزه".

يغادر نعمان اليوم عنيّر مخططاً للعودة إليها مجدداً، كما اعتاد أن يفعل، ربما ليس وحيداً، وليس بعائلته أو أبناء قريته فقط، بل بمجموعات فلسطينية تزور المنطقة بمسارات دائمة، تشرب من ينابيعها، تسمع قصصها، وتعلق أمنياتها في مقام عنيّر.

IMG_8353


IMG_8365


IMG_8362

 

IMG_8348

 

IMG_8389
 

IMG_8396
 

IMG_8398