شبكة قدس الإخبارية

سوق الابتكار الإسرائيلي: الاحتلال بائعاً والاستبداد زبوناً

innovation-2
مي خلف

على مدار العقود الماضية عملت دولة الاحتلال الإسرائيلي على حجز مكانة متقدمة في سوق صناعة التقنية العالية (High tech) في العالم، ليس لاعتبارات اقتصادية فقط ولكن لاعتبارات أمنية وسياسية، وكجزء من قوّتها الناعمة للتمدد في المنطقة عبر سوق الابتكار والحلول التكنولوجية.

في إطار هذا السعي، تحوّلت تل أبيب وقرى ذكية أخرى بنيت في بئر السبع وفي قضاء حيفا إلى وادي سيليكون ثاني، وجذبت الشركات الكبرى مثل ميكروسوفت وآبل وفيسبوك وجوجل لتتخذ من شركات إسرائيلية مختبرات تطوير لها أو الاستحواذ على شركات ناشئة، خاصة في مجال تحليل البيانات وتقنيات الذكاء الصناعي.

الجانب المظلم من هذا السوق الذي تفتخر به دولة الاحتلال وتقدّم نفسها كوجهة استثمارات مغرية فيه، بدأ يتكشّف من عدة جوانب، لما فيه من انتهاكات لحقوق الإنسان عبر التعاون مع قوى سياسية مستبدة لقمع المعارضين والتجسس على المواطنين، إضافة لانتهاكات خطيرة متعلقة بانتهاك خصوصية مستخدمي الهواتف الذكية وتتبعهم سِرّاً ودراسة أنماط سلوكهم وبيع بياناتهم وتحليلها لطرف ثالث.

سوق ناشئ للتجسس وتجارة البيانات

نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية مؤخراً تقريراً كشفت فيه تورط شركات إسرائيلية ناشئة ومتخصصة في جمع وتحليل بيانات المستخدم، بقضايا انتهاك الخصوصية ومشاكل الأمنية وانعدام شفافية فيما يتعلق بكيفية استخدام هذه الشركات للبيانات التي جمعتها حول المستخدمين.

ركزت الصحيفة على قصة 4 شركات، الأولى “Onavo” التي استحوذت عليها فيسبوك عام 2013 مستفيدة من تقنية “Insights” التي استخدمتها فيسبوك لدراسة سلوك المستخدمين وتطوير ميزة الفلاتر والقصص في انستغرام. إضافة لذلك، استخدمت فسبوك الشركة الإسرائيلية لتتبع اتجاهات مستخدمي الهواتف الذكية وتحديد التطبيقات الشائعة مما ساعدها باتخاذ قرار الاستحواذ على تطبيق “واتساب” عام 2014، قبل أن يتنافس عليه المتنافسون. يذكر أن تطبيق “Onavo Protect” حُذف من متجر آبل بعد كشف تخطيه لقيود جمع البيانات واتفاق استخدام بيانات العملاء الخاص بشركة آبل.

تتورط شركة “Glassbox”، التي تأسست عام 2010، أيضاً بنشاطات انتهاك خصوصية المستخدمين، فهي متخصصة بمراقبة نشاط المستخدمين في المنصات الرقمية دون إبلاغهم. وكشف مؤخراً موقع “تك كرانتش” التكنولوجي أن هذه الشركة تقدم الخدمات لمواقع لسفر وشركات الخطوط الجوية والبنوك الإسرائيلية عبر تسجيل جلسات المستخدمين داخل الموقع وتحرّكاتهم بحذافيرها وتقديمها لمطوّري التطبيقات، وتربح من نشاطها عشرات ملايين الدولارات سنوياً. عقب المقالة، وجهت آبل تحذيراً لمطوّري التطبيقات من استخدام تقنية غلاس بوكس دون علم المستخدم، وإلا سيؤدي ذلك لحذف التطبيقات.

الشركة الثالثة التي تحدث عنها التقرير هي “Superfish” الناشئة التي ابتكرت محرّك بحث بصريّ خاص بها، استفادت منه شركة “لينوفو” الشهيرة عبر تركيبه في أجهزتها المحمولة لتتمكن الشركة من إدراج إعلاناتها الخاصة في صفحات الويب التي يشاهدها مستخدمو الجهاز. بقرار قضائي، عوقبت لينوفو على هذا التصرف، بعد أن أصبح البرنامج ثغرة للقراصنة. لاحقاً في 2016 أغلقت “سوبر فيش” بشكل نهائي.

أما شركة “similar web”، التي أسست عام 2009، وتعتبر شركة ناشئة، فتقدم خدمة شائعة للشركات، وهي قياس حركة المرور على مواقع الويب والتطبيقات. تجمع الشركة المعلومات من المتصفح، بحيث ترصد الإضافات (PLUGins) والتطبيقات وأشرطة الأدوات والبرامج المثبتة على أجهزة المستخدمين، وتقدمها للشركات التجارية لتزيد أرباحها عبر فهم السوق والمستهلك.

الاستبداد زبوناً

يضاف إلى نشاط هذه الشركات، التي تهدف في الغالب لجني الأرباح عبر دراسة المستهلك وتوجيهه، نشاطات أخطر تنتهك حقوق الإنسان وتساعد حكومات استبدادية بالتجسس على معارضين سياسيين وملاحقتهم وسلب حريّتهم وأحياناً، حياتهم.

هنا نتذكر الضجيج الذي تبع قضية اغتيال الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، وما كشف لاحقاً حول شركة “NSO Group” الإسرائيلية التي طوّرت وباعت برنامج “PEGASUS” الذي استخدمه النظام السعودي للتجسس على خاشقجي ومعارضين آخرين، وبيع كذلك لـ 45 دولة لأغراض شبيهة، من بينها 16 دولة عربية.

الحديث عن هذه البرمجية وتورطها بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بدأ قبل اغتيال خاشقجي بسنوات، وقد حذرت منه مجلة فوربس عام 2016 في تقرير حمل عنوان “برمجية التجسس التي اخترقت آيفون برسالة نصية واحدة”، ذكرت فيه استخدام الإمارات للبرمجية للتجسس على المعارض المعروف أحمد منصور الذي تعاون مع منظمة “سيتيزين لاب” لكشف الأمر، ما أجدى لاحقاً لسلسلة من التقارير التي كشفت مدى انتشار هذه البرمجية وسط الأنظمة القمعية.

الجديد في الأمر هو ما كشفته القناة 13 الإسرائيلية، الأحد الماضي، حول موافقة الحكومة الإسرائيلية “غير المباشرة” على تصدير هذه البرمجية، موضحة أن هدف الموافقة كان “حماية أنظمة إشكالية”. ونقلت القناة عن مسؤولين أشرفوا على منح الموافقات لشركة “NSO” للتعاقد وتصدير برمجية “بيغاسوس” قولهم إن إسرائيل أرادت الحفاظ على هذه الأنظمة القمعية لأنها “أفضل من غيرها”. والسبب الثاني هو المصالح المشتركة بين المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وشركة “NSO”، التي تقدم بدورها خدمات لوحدات الاستخبارات الإسرائيلية أبرزها وحدة “8200” للتجسس الرقمي، مما يتيح لها بسهولة الحصول على تصاريح لبيع برمجياتها.

“أمة الابتكار”؟ عالم ثالث!

برغم صيتها الذائع بمجال التقنية المتقدمة، تحديداً في البحث والتطوير والبرمجة ودراسة الأسواق، وتفوقها بهذه المجالات على دول الـ OECD (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، إلا أن هذا التقدم لا ينعكس إيجاباً على بقية المجالات في إسرائيل، أي أن التكنولوجيا المبتكرة لا تطبق لتحسين الخدمات في شتى القطاعات وتحويلها لقطاعات ذكية. و من مواصلات وخدمات بنكية وخدمات الشحن والبريد والتعليم والتجارة الإلكترونية والتعاملات البيروقراطية مع مؤسسات الدولة.

أوضحت ميراف أرلوزوروف في مقال بصحيفة “ذا ماركر” الاقتصادية الاسرائيلية هذا قائلة إن “غالبية مجالات الاقتصاد الإسرائيلي تتعامل بطريقة بدائية مشابهة لدول العالم الثالث، وهو ما يكشف عن ضعف مناظر للعالم الثالث. لذا فإن أي صدمة خارجية- بين انكشاف اقتصادي على السوق العالمي والدخول بمنافسة- تجعل معظم أسواق الاقتصاد الإسرائيلي عرضة للخطر وعاجزة عن التعامل مع الاقتصادات الناجحة والمتقدمة”.

مقابل ذلك، سجّل الاقتصاد الإسرائيلي عام 2018 ارتفاعاً بالصادرات بنسبة 8% مقارنة بعام 2017، ويشّكل تصدير الخدمات التكنولوجية المتقدمة نسبة كبيرة من هذا النمو، إذ سجل ارتفاعاً بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق، وفق آخر تقرير لوزارة الاقتصاد الإسرائيلية.

الصورة الكبرى

إذا رتبنا جميع المعطيات المذكورة في هذا المقال، أي ضعف الخدمات التكنولوجية المقدمة للمجتمع الإسرائيلي مقابل الزيادة المستمرة بتصدير التكنولوجيا والابتكارات لدول عدة تبرز من بينها الصين ودول أفريقية مختلفة، واستحواذ المزيد من الشركات العالمية على مشاريع ريادية إسرائيلية في مجالات متنوعة، وزيادة الاستثمارات الأجنبية بالسايبر الإسرائيلي (6 مليون دولار في 2018) وتورط مشاريع ريادية بانتهاكات بموافقة الحكومة الإسرائيلية أحياناً، نستطيع أن ندوّن الملاحظات التالية:

الاستبداد زبوناً: تستفيد إسرائيل من الاستبداد السياسي والنزاعات الإقليمية والحروب الأهلية وانعدام الاستقرار الأمني في الدول المختلفة لتسويق الابتكارات في مجال الأمن السيبراني والتجسس، وهو ما يغذّي الأنظمة المتغوّلة والحكومات اليمينية ويمنحها أدوات متطورة لتعميق الاستبداد، مثل الحكومات اليمينية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والصين وبعض الدول العربية.

غسيل الصورة: يمكن النظر لسوق الابتكار الإسرائيلي كجزء من مشروع تحسين سمعة الاحتلال وغسيل صورته أمام العالم، وهو ما نستدل عليه من عوامل عدة من بينها الفجوة بين سمعة إسرائيل في مجال التقنية عالمياً، والخلل بتطبيق هذه التقنيات لتحسين جودة الحياة للمواطنين. وعليه فإن هذا السوق موجّه لتحقيق أهداف متعلقة بالخارج أكثر من كونه مشروعاً وطنياً تنموياً.

التقنية كرافعة للتطبيع: عندما تصرّح القيادة الإسرائيلية بسعيها لإنشاء علاقات مع الدول العربية “المعتدلة” دون حلّ القضية الفلسطينية، فهي لا تقصد بذلك خلق مساحات تتقاطع فيها المصالح السياسية والتهديدات الأمنية مع هذه الدول فقط (التهديد الإيراني مثالاً). إنما تقصد وتسعى لخلق تقاطعات حتمية مع هذه الدول في مساحات استراتيجية مختلفة يعتبر سوق الابتكار جزء مهماً فيها. وهنا يمكن الوصول لتطبيع كامل عبر تفكيكه إلى مجالات فرعية، تحترفها إسرائيل وتتقنها وتكون عنوانها الأول في المنطقة (التكنولوجيا الزراعية والأمنية مثالاً).

المصدر: موقع اسطرلاب