شبكة قدس الإخبارية

"الاحتجاج الشعبيّ في فلسطين: المستقبل المجهول للمقاومة غير المسلّحة"

i496_2
أحمد العاروري

صدر، مؤخّراً، عن مؤسسة "الدراسات الفلسطينيّة"، كتاب "الاحتجاج الشعبيّ في فلسطين: المستقبل المجهول للمقاومة غير المسلّحة"، للباحثيْن مروان درويش وأندرو ريغبي. تتمحور أطروحة الكتاب الأساسيّة حول تاريخ ما يسمّيها المؤلفان "المقاومة غير المسلّحة" في فلسطين، وواقعها الحالي بعد انتهاء انتفاضة الأقصى، والسنوات التي تلت ذلك.

يقع الكتاب في 237 صفحةً، ويضمّ مقدمةً وثمانية فصولٍ وخاتمةً. يطرح الباحثان في المقدمة الإطار النظريّ الناظم لأطروحتهما، والمُستقى من نظرياتٍ عالميّةٍ تتناول ما تُعرف بـ"المقاومة المدنيّة"، مثل كتاب "جاك سيميلين" بشأن مقاومة الشعوب الأوروبيّة التي وقعت تحت الاحتلال النازيّ في القرن العشرين، و"جين شارب" الذي نشر دراساته حول المقاومة السلميّة في كتابه "سياسات العمل غير العنيف".

كما يشرح الباحثان في المقدمة ما أسمياها "الافتراضات الأساسيّة المتعلّقة بديناميات المقاومة المدنية"، وهي: القوّة التابعة التي تستدعي تقويض الخوف من الاستعمار وسياسات الطاعة التي يتّبعها جزءٌ من المجتمع في علاقاته مع القوّة المحتلّة، بالإضافة لزيادة تكلفة سياسات النظام، وسلسلة اللاعنف/التأثير التي نظّر لها "يوهان غالتونغ"، القاضية بأنّ ثمّة حاجةً لممارسي المقاومة الشعبية لوجود وسيطٍ بينهم وبين الخصم، بهدف ممارسة نفوذه عليه.

يستفيض الباحثان في شرح أشكال المقاومة غير العنيفة وشروط نجاحها، وهي: المقاومة الرمزيّة، والجدليّة، والهجوميّة التي تشمل الإضرابات والتظاهرات وغيرها، والدفاعية، والبناءة عبر إنشاء مؤسساتٍ بديلةٍ تجسّد القيم التحرريّة لكسر السيطرة الاستعماريّة على المجتمع.

في الفصل الأول من الكتاب، يمنح الباحثان القارئ خلفيةً تاريخيّةً حول مقاومة الشعب الفلسطينيّ للاستعمار الإنجليزيّ والهجرات الصهيونيّة، شارِحَيْن أسبابَ فشلها في تحقيق نجاحاتٍ كبيرةٍ من وجهة نظريهما، ومحلّلَيْن المقاومة الفلسطينية الشعبيّة  بعدسة نظريات المقاومة المدنيّة. أمّا في الفصل الثاني، فيستعرض الكتاب أمثلةً لفلسطينيين بقوا في الأراضي المحتلة عام 1984، ونجحوا بالصمود بطرق "سلميّةٍ" غير عنفيّةٍ، عبر المقاومة بزراعة الأراضي التي حاول الاحتلال السيطرة عليها، أو عبر النشاطات الثقافيّة للتمسّك بالهويّة العربيّة والإسلاميّة في مواجهة "الأسرلة".

يأخذنا الباحثان، فيما بعد، إلى عالم المقاومة الفلسطينيّة بعد النكبة وتأسيس الفصائل المسلّحة ومنظمة التحرير، والنضال ما قبل الانتفاضة الأولى ونجاحاته أو فشله وأسبابه، ثم يجريان تحليلاً لواقع الانتفاضة الأولى على وقع نظريات "اللاعنف"، وكيفيّة وصولنا للانتفاضة الثانية التي يرى الباحثان كارثيّة نتائجها، نظراً للجوء الفصائل لـ"العنف المسلّح" والعمليات الاستشهاديةّ التي يُسمّيانها بـ"الانتحاريّة". وينهي المؤلّفان كتابهما بإنشاء الاحتلال الجدار العازل، وما تبعه من ظهور مقاومةٍ "سلميّةٍ" في عدّة قرى بالضفة المحتلة، والصعوبات التي واجهتها، مع عقد مقارنةٍ بينها وبين حركة مقاومة الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا.

ينطلق المؤلّفان، في كتابهما، من فكرةٍ ترى أن تعزيز ما تُسمّى بـ"المقاومة اللاعنيفة/أو السلميّة"، في مواجهة سلطات الاحتلال الصهيونيّ، سيخلّف نتائجَ سياسيّةً وميدانيّةً لصالح الشعب الفلسطيني، ستكون أكثرَ فاعليةً من "المقاومة المسلحة/أو العنيفة"، ذات الثمن الاقتصادي والدبلوماسي والإنساني الكبير، بحسبهما.

تنفتح الفكرة المشكِّلة لجوهر الكتاب على جملةٍ من التناقضات، مصدرُها إصرار الباحثين الدائم على الفصل الحادّ بين المقاومة الشعبية أو "غير العنيفة" وتلك المسلحة، وهو حال طيفٍ واسعٍ من الكُتاب والمحلّلين السياسيين في فلسطين. ويُمكننا، بالعودة إلى تاريخ المقاومة في بلادنا بقراءةٍ معمّقةٍ، رؤية صورةٍ أخرى لا تخدم فكرة الفصل هذه؛ فمنذ بدايات الاستعمار الصهيونيّ لبلادنا قبل القرن العشرين وما بعدها، وقبل ظهور الأحزاب والتنظيمات السياسّية والعسكريّة بمعناها الحديث، بادر الفلاحون الفلسطينيون ضمن تشكيلاتٍ اجتماعيةٍ وعائليةٍ مختلفةٍ، إلى مهاجمة ومواجهة المستوطنات الصهيونيّة ومنع امتدادها.

تجاهل التاريخ .. عن علاقة الفلسطيني بالسلاح

يتجاهل الخطاب الذي يصدّره الكتاب تاريخاً عميقاً للفلسطينيين خاصّةً، وأهالي بلاد الشام عموماً، يحكي علاقتهم مع السلاح والتعلّق به، في ظلّ بديهيةٍ أساسيةٍ تقضي بخوض هذه المنطقة صراعاتٍ كبيرةً بين العائلات والحُكّام والمجتمع، خصوصاً في الفترات الأخيرة من عُمر الدولة العثمانية في بلادنا؛ وهو الأمر الذي لم يأخذه الكاتبان في حُسْبانهما عند إسقاطهما لنظريات "المقاومة غير العنيفة" على وقائع تمتلك خصوصيّاتها التاريخيّة، وهو كمن يقرأ التاريخ بعين الحاضر، الذي إن أصاب في القليل، إلا إنّه يُهمل روح المرحلة بما لها من سماتٍ مختلفةٍ. [1]

يستعين الباحثان بنظريات "جين شارب" و"غالتونغ" و"فيرنر رينغس" حول آليات المقاومة "المدنية/أو غير العنيفة"، في تقييم جزءٍ من المقاومة الفلسطينيّة خلال سنوات الاحتلال البريطانيّ، وإنْ كان بالإمكان الخروج بنتائج تُظهر جزءاً من الصورة التي شكّلت واقع الكفاح الشعبيّ لمنع قيام الكيان الصهيونيّ ونهب الأرض الفلسطينية، إلا أنّها تخدم الفكرة التي استحالت "أيديولوجيا" تُشيَّد بما يسمّيانها "المقاومة غير العنيفة" في مقابل تلك المُسلّحة، وهو الأمر الذي لم يعرفه المجتمع الفلسطينيّ في حركته النضاليّة ضد الصهاينة. [2]

كما عرفت التجربة الفلسطينية، خلال مواجهتها الاحتلال البريطانيّ والعصابات الصهيونيّة، الاعتصامات والتظاهرات، توازياً مع الكفاح المسلّح، بل وساهمت هذه الاحتجاجات في بعض الأحيان في خلق حالةٍ من الاشتباك تحوّلت إلى بيئةٍ مؤاتيةٍ للفعل المقاوم المسلّح؛ كالاعتصام الذي نظّمه الفلاحون الفلسطينيون في مستوطنة "العفولة"، المقامة على أراضي قرية "الفولة" في سهل مرج بن عامر، رفضاً لبيع أراضيهم من قبل وجهاء عائلة سرسق اللبنانية لصالح جمعياتٍ استيطانيةٍ، خلال عشرينيّات القرن العشرين؛ وهو الاعتصام الذي دعمه الحزب الشيوعيّ "لمقاومة إجلاء الفلاحين عن أراضيهم، ودعوتهم للتمسُّك بها". [3]

توازياً مغ ذلك، لم يُلْقِ الفلسطينيّ السلاح، بل حمله كخيارٍ حتميٍّ خلال حركته الشعبيّة التي تركّزت في القرى، وبين الفلاحين الذين تيقّظوا مبكّراً الخطر الصهيونيّ، وكانوا ربما الأكثر إحساساً به، في ظلّ وجود نُخَبٍ مدينيةٍ ساهمت في محاولة استمالة بريطانيا، و"التهرّب" من المطالب الشعبية بالصِّدام مع الإنجليز والحركة الصهيونية في آنٍ واحدٍ، وهو ما يتحدّث عنه الكاتبان، لكنهما لم يتطرقا لدور وجهاء ومثقفين مساندين للثورة، مثل محمد عزة دروزة؛ باعتباره واحداً ممّن ساهموا في تعزيز حركة الشيخ عز الدين القسام، واندلاع الثورة العربية الكبرى عام 1936.

بالرجوع إلى سنوات العشرينيّات لقراءة مشهد المسيرات والمظاهرات التي عمّت شوارع يافا والقدس وغيرها بقيادة نخبٍ ووجهاء؛ على رأسهم رئيس اللجنة التنفيذية العربية، موسى كاظم الحسيني، وما لاقته من إرهابٍ دمويٍّ من جانب سلطات الاحتلال البريطانيّ، فإنّنا نلاحظ ولادة تجاربَ ثوريةٍ يمكن قراءة جزءٍ من أسباب انطلاقها كردّ فعلٍ على عدم استجابة بريطانيا للمطالب الشعبيّة الفلسطينيّة وقمع المظاهرات، كتنظيم "الكفّ الأخضر" الذي شكّله المناضل العربي الدرزي أحمد طافش من مدينة صفد  في عام 1929، ليتمكّن التنظيم خلال عامٍ واحدٍ من تنفيذ عملياتٍ نوعيةٍ في قضاء صفد وقرى عكا، استمرّت حتى ربيع العام 1930؛ مُستفيدةً من الدعم الذي وفّرها له الفلاحون الفلسطينيون.

تأسيساً على ما سبق، يمكننا القول إنّ هناك قاعدةً هامّةً تغافل عنها الكاتبان، وهي أنّ "العنف الثوريّ" الذي خاضته المجموعات العسكريّة الفلسطينيّة، كان في جانبٍ منه "ردَّ فعلٍ" على مواجهة القمع البريطانيّ الشديد لتظاهرات الفلسطينيين "غير العنيفة"، واحتجاجاً من نوعٍ آخر على الهجرات اليهودية ورفض الاستماع لمطالب أهل البلاد لوقفها.

من ناحيةٍ أخرى، قد نتّفق جزئياً مع الشرط الذي أرساه الباحثان، المتمثّل في ضرورة غياب الانقسامات المجتمعيّة لنجاح "الثورة أو الحركة المدنية السلمية"، غير أن الإلمام بتفاصيل الواقع التاريخيّ لمجتمعنا يعلّمنا التريُّث ورؤية صورةٍ أوسع؛ فخلال الانتفاضات والهبّات الفلسطينية، كانت الانقسامات "العمودية والأفقية" غالباً ما تختفي لصالح خطابٍ وطنيٍّ جامعٍ يتمّ "نحتُه" خلال المواجهة، وإنْ كان هذا الخطاب لم ينجح في إشراك كلّ فئات مجتمعنا بالنضال، باعتباره أمراً طبيعيّاً عاشته كلّ المجتمعات، وإنْ كان هذا الخطاب أيضاً ساهم في "تسكين" جزءٍ من الانقسامات بين عائلتي النشاشيبي والحُسيني مثلاً، وما نتج عن ذلك من تكتّلاتٍ حولهما، ما أثّر على المجتمع وحركته ضدّ الاستعمار. كما أنّ ثمة انقساماتٍ من نوعٍ آخر ساعدت الحركة الصهيونية على عزل طوائفَ فلسطينيةٍ عن مجتمعها، وعملت على تكريس خطاب "الانفصال" لصالح تجنيدها في الجيش و"الدولة"، كما حصل مع الدروز مثلاً.

ثمّة إشكاليّةٌ أخرى تعتري السرد التاريخيّ للكتاب، إذ يقفز الأخير عن النضال المُستمرّ الذي مارسه اللاجئون الفلسطينيون في السنوات الأولى التي أعقبت النكبة، عبر عمليات العودة اليوميّة عبر الحدود، فقسمٌ كبيرٌ من اللاجئين لم يستسلموا لفكرة اقتلاعهم من قراهم ومدنهم، محاولين العودة مراراً إلى ديارهم الأصليّة، رغم استشهاد بعضهم برصاص الجيش الصهيوني واعتقال آخرين، حيث أظهرت إحصائيات العام 1951 قبوع 195 فلسطينياً في سجون الاحتلال؛ منهم من اعتُقل على الحدود، أو بعد عودته في سياق الحملات التي واصل الاحتلال شنَّها على البلدات التي  بقي فيها جزءٌ من أهلها، لملاحقة العائدين وإعادة تهجيرهم من جديدٍ.

ومن الحكايات المميّزة لفلسطينيين استطاعوا العودة، قصّة سعيد صالح الأسدي، أحد أبطال فرقة "أبي إسعاف" التي لعبت دوراً مميزاً في معارك النكبة في منطقة الشاغور، إذ استطاعت انتزاع قرى ومناطق بأكملها من أيدي العصابات الصهيونية. استطاع الأسدي بعد النكبة العودة إلى الجليل عشرات المرات، بين عامي 1948 و1956، والمكوث في إحدى المغارات والالتقاء بزوجته، حيث خُلّدت حكايته في رواية "باب الشمس" للكاتب اللبناني إلياس خوري. [4]

الانتفاضة الأولى .. بعيداً عن ثنائية "العنف/اللاعنف"

تمهيداً للحديث عن الانتفاضة الأولى، يتطرّق الكاتبان لدور الجمعيات والهيئات التي أسّست أغلبَها منظمةُ التحرير والحزب الشيوعيّ، ودورها في تعزيز الهوية الوطنية، والعمل التطوعيّ الذي ساهم فيما بعد بمدّ جسورٍ مجتمعيّةٍ استفاد منها المجتمع الفلسطينيّ خلال انتفاضته، رغم ما أصاب هذه الهيئات من انشقاقاتٍ جرّاء الخلافات الحادّة التي شهدتها سنوات الثمانينيّات بين فصائل المنظمة، ورغم القمع الذي واجهته من الحكم العسكري الصهيوني، إذ حاول الصهاينة، آنذاك، اغتيال رؤساء البلديات؛ مثل بسام الشكعة وغيره، وإبعاد فهد القواسمي، ومحمد ملحم، ورجب التميمي.

لكن ما لم يقله الكاتبان أنّه بالموازاة مع "الكتابة على الجدران والاحتجاجات والمظاهرات"، لم يتوقّف العمل العسكري للحظةٍ في الأرض المحتلة، وبخاصّةٍ في قطاع غزة، الذي لم تهدأ عمليات المقاومة فيه، منذ النكبة وتدمير معظم القرى المُحيطة به، ليبلغ عدد العمليات الفدائية في قطاع غزّة 167 عمليةً عام 1968، و471 عام 1969، و455 عام 1970؛ الأمر الذي راكم بنيةً تأسيسيّةً للانتفاضة الأولى. [5] كما يُسقط الكتاب دور "معركة الشجاعية" التي خاضها المقاومون من حركة الجهاد الإسلامي: محمد الجمل، ومصباح الصوري، وزهدي قريقع، وأحمد حلس، وسامي الشيخ خليل، في السادس من شهر تشرين بالعام 1987، في تفجير الانتفاضة التي اندلعت بعد شهرين فقط.

يذهب الباحثان إلى أنّ الانتفاضة الأولى تندرج ضمن "المقاومة المدنيّة/أو غير العنيفة"، ويلجأن لعملية تحقيبٍ أو تقسيمٍ لسنواتها، حيث كانت سنواتها الثلاث الأولى، وفقاً لزعمهما، الأكثرَ "سلميّةً" ونجاحاً، والتي كان يمكن لها "التأثير في الضمير الجماعيّ للمجتمع الإسرائيليّ"؛ وهو أحد الأهداف التي يدعو إليها قسمٌ كبيرٌ من منظّري "المقاومة غير العنفية" لحركات الاحتجاج السلميّ والمدنيّ.

كما يدّعي الباحثان أنّ الانتفاضة فشلت في تحقيق جملة الأهداف التي اشتعلت لأجلها، وذلك عائدٌ للجوء الفلسطينيين "للعنف"، ما حرمهم من فرصة تحريك "المجتمع الإسرائيلي" لرفض الاحتلال والمطالبة بالانسحاب من الضفة وغزة، كما أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من تدفيع الاحتلال ثمناً اقتصاديّاً وسياسياً، بفعل ارتباط مجتمعنا باقتصاد العدو وقدرته على الاستغناء عن العمال الفلسطينيين، ما انعكس بالضرر علينا أكثر من انعكاسه على دولة الاحتلال.

إنّ هذا التحليل أو التوصيف لما يُسمّيه الباحثان أسباب فشل الانتفاضة، يقودنا لأسئلةٍ تهدف إلى الحفر في يوميات الانتفاضة، وما توفّر عنها من شهاداتٍ، للخروج بمعرفةٍ لا تبقى رهينة الثنائيّة الصارمة "العنف/أو اللاعنف"، بما يتعلق بطبيعة الانتفاضة؛ فكيف يمكن لهذه الثنائية أن تتعامل مع نشاطاتٍ كانت تُعتبر "العمود الفقري" في يوميات الكفاح الفلسطيني الذي امتدّ لسنواتٍ، وبقي حتى الآن "سلاحاً بديلاً"، مثل: ضرب الحجارة، وإلقاء الزجاجات الحارقة، وإغلاق الشوارع؟

يورد الكتاب شهاداتٍ على لسان نشطاء شاركوا في فعاليات الانتفاضة الأولى، يشيدون خلالها بـ"التناغم" الكبير بين الداخل المحتل وقيادة منظمة التحرير في الخارج، لكن عودةً لمجموعة من النصوص والمذكرات لقياداتٍ فصائليّةٍ بإمكانها البوح بعكس ذلك، إذ إنّ تدخلات القيادة من الخارج لم تكن تلاقي ترحيباً دائماً من الكوادر في الأرض المحتلة، وهو ما دّونته نصوصُ ومذكّراتٌ تحكي طرفاً من تلك التجربة.[6]

على وقع ذلك، يمكننا نصْب تساولٍ مفادُه: لماذا لم تُدرس أسباب "فشل" الانتفاضة في تحقيق "إنجازاتٍ كبيرةٍ لشعبنا"، ضمن إطارٍ بحثيٍّ معرفيٍّ واسعٍ لا يحصر نفسه في الإجابة عن سؤال الفشل ضمن ثنائية العنفيّ/اللاعنفيّ، بل يتناول موقع قيادة المنظمة التحرير من كل ذلك، بالإضافة لبنية المجتمع الفلسطينيّ التي لا تحتمل هبّةً أو انتفاضةً أكثر من سنواتٍ معدودةٍ؟

انتفاضة الأقصى .. المُفترى عليها

في معرض حديثهما عن الانتفاضة الثانية، يمكن للقارئ ملاحظة موقفٍ سلبيٍّ من الباحثَيْن إزاء انتفاضة الأقصى، حيث يُحمِّلان العمليات الاستشهادية التي يُطلقان عليها "الانتحارية" مسؤولية ما يصفانه أيضاً بـ"إخفاقها" في إجبار الحكومة الصهيونيّة على الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني، التي فشلت العملية السلميّة في تحقيقها أيضاً، في إشارةٍ إلى مرحلة ما بعد اتفاق "أوسلو" وإخفاقاتها، غير أنّ الكتاب يغيب عنه الحديث عن دور السلطة التي وُلدت مع الاتفاق، بوصفها جزءاً من أسباب "الإخفاق" الذي مُنيت به الانتفاضة الثانية.

 

 

تجدر الإشارة، أيضاً، إلى أنّ الكتاب يتغافل عن دور الانتفاضة الثانية، بطابعها المسلّح، في إجبار الاحتلال على الانسحاب من قطاع غزة وأجزاءٍ من الضفة الغربية، وإعادة التفكير في جدوى التوسُّع الاستيطاني الذي كان رئيس حكومة الاحتلال  "أرئيل شارون"، وقتها، أحد "أنبيائه" أو داعميه الكبار  منذ السبعينيات.

كما يصرّ الكاتبان على أنّ الانتفاضة الثانية دفعت باتجاه صعود "اليمين المتطرّف" داخل "المجتمع الإسرائيلي"، كما يصفانه، دون موضعة هذا الصعود ضمن البنية العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة لدولة الاحتلال، والعلاقات بين الجيش والمجتمع الصهيوني، الأمر الذي يجعل مسألة الحروب وشنّ العمليات العسكرية ضدّ التجمعات الفلسطينيّة والعربيّة جزءاً رئيسياً وأصيلاً من بنية "إسرائيل" نفسها، وهو ما تؤكّده أطروحة الكاتب "أوري بن إليعازر" في كتابه "حروب إسرائيل الجديدة، تفسيرٌ سوسيولوجيٌّ -تاريخيٌّ".

وضمن هذا المنحى لفهم تركيبة المجتمع الصهيوني، يمكّننا قراءة ما تُسمّى بـ"حركات السلام الإسرائيليّة"، وموقعها في الصراع ودورها، حيث ترد في الكتاب نماذجُ لهذه الحركات في الانتفاضة الأولى، وفي مرحلة النضال ضد الاستيطان والجدار ما بعد الانتفاضة الثانية، التي  ظلّت عاجزةً عن تحقيق اختراقٍ لصالح خطابها بين الصهاينة.

المقاومة الشعبية ما بعد انتفاضة الأقصى

في معرض حديث الكتاب عن "المقاومة الشعبيّة" أو الحراكات التي انطلقت في عدّة قرى بعد انتفاضة الأقصى، وادّعاء الكاتبيْن "اندلاع موجةٍ" من المقاومة غير المسلحة، أواخر انتفاضة الأقصى وما بعدها، رداً على إقامة الجدار الفاصل والتوسُّع الاستيطاني، تغيب نقاشاتٌ جوهريّةٌ تتعلّق بشكل "المقاومة الشعبيّة" وخطابها الذي ظلّ عاجزاً عن خلق لغةٍ يتواصل بها مع فئات المجتمع الفلسطيني، بما يحقق لهذه الفعاليات الحشد الجماهيريّ. فمثلاً خلال المقابلات التي أجراها الباحثان مع النشطاء، طرحا أسئلةً متمحورةً حول الأسباب التي تدفع الشبان لضرب الحجارة أو إلقاء الزجاجات الحارقة خلال المواجهات، وكأننا هنا أمام برنامجٍ جاهزٍ "يجب التقيُّد به حرفياً"، وإلا فإنّ الفعاليات ستخرج عن الطابع الشعبيّ/السلميّ.

ربما ما يُحسب للباحثين، في هذا الكتاب، اعترافهما بأنّ جزءاً من القائمين على لجان المقاومة الشعبيّة يتحدّرون من خلفياتٍ سلطويّةٍ أو يعملون لصالح منظماتٍ دوليةٍ، مُشيرَيْن إلى مفارقةٍ تكتنف خطاب السلطة، فبينما تؤكّد الأخيرة دوماً أهمية المقاومة الشعبيّة السلميّة، إلّا أنّها في الآن نفسه ليست مستعدةً لدعمها بشكلٍ قويٍّ وفعّالٍ، نتيجةً لارتباطها باتفاقياتٍ مع دولة الاحتلال تقوّض ذلك المسار، وهو أحد الأسباب التي يوردها الكتاب في معرض حديثه عن ضعف حركة المقاومة السلميّة.

كما يقودنا الحديث عن دور السلطة إلى سجالٍ آخرَ يتعلّق بتنوّع نمط فعاليات المقاومة الشعبية من قريةٍ إلى أخرى، تبعاً لظروفٍ عدّةٍ، فبلدة نعلين غرب رام الله تمتلك تجربتها الخاصة المُتفق عليها شعبيّاً وفصائليّاً، إذ شُكِّلت لجنةٌ تضمّ مختلف مؤسسات البلدة للإشراف على المسيرات التي بلغت أشدّها في العامين 2008 و2009، مُرتقياً خلالهما خمسة شهداء، إذ استخدم الأهالي حينها جميع وسائل المقاومة الشعبيّة المُتعارف عليها فلسطينيّاً، كما لم يحتكم جزءٌ كبيرٌ من خطابها لثنائيّة "العنف/واللاعنف"؛ الأمر الذي يختلف عن مواقعَ أخرى التزمت بتفاهماتٍ تحدّد طبيعة نشاطاتها.

حصار غزة كضرورةٍ للسيطرة على الضفة

في خاتمة الكتاب، يستعرض المؤلفان الوضع الإنساني القاسي الذي يعاني منه الفلسطينيون في قطاع غزة، وهنا تبرز إشكاليةٌ أخرى، وهي أنّهما أرجعا أسباب الوضع الحالي إلى الأحداث التي أعقبت فوز حماس بالانتخابات التشريعية  في العام 2006، وسيطرتها على قطاع غزة بعد اشتباكاتٍ مع الأجهزة الأمنية للسلطة، غير أنّ هذا الادّعاء يمكن تفنيده باعتباره نصف الصورة الحقيقيّة للدوافع التي قادت دولة الاحتلال لفرض حصارها على القطاع.

فإنْ كانت أشدُّ مراحل الصراع قسوةً قد بدأت خلال السنوات الاثتني عشرة الماضية، غير أنّ إغلاق القطاع والتنكيل المستمر بأهله له تاريخٌ طويلٌ سابقٌ على سيطرة "حماس" على القطاع، في إطار مشروعٍ صهيونيٍّ ساعٍ لتكريس فصل القطاع عن الضفة الغربية المحتلة، ومنع أيِّ اتصالٍ بين المنطقتين، فلكي تستمر دولة الاحتلال في  سيطرتها على الضفة، لا يُمكن أن تُبقي غزة حُرّةً في حركتها، لتقيمَ علاقاتٍ مع الوطن العربي وجزءٍ من العالم، وتصبح مركزاً للمقاومة، كما هو الحال عليه الان.[7]

بين تشاؤم العقل وتفاؤل إرادة المقاومة

وفي خاتمة الكتاب أيضاً، يقرُّ الباحثان بتشاؤمهما من المصير الذي انتهت إليه حركة المقاومة الشعبية، ويطرحان توصياتٍ تتعلّق بالوحدة الوطنية، وضرورة اتفاق الفصائل على تعبئة جماهيرها لدعم المقاومة السلميّة، لكنّ الواقع يشير إلى أنّ الفصائل تعيش أزمةً كبيرةً بعد سنواتٍ من الملاحقة المزدوجة من الاحتلال والسلطة، إضافةً لترهُّل البنية التنظيميّة لأغلبها.

لكن هذا التشاؤم لا يُلغي التفاؤل الذي فرضته علينا الهبّات الشعبيّة التي انطلقت في فلسطين المحتلة في السنوات الأخيرة؛ مثل انتفاضة القدس، وهبّة البوابات في القدس، ومسيرات العودة الكبرى على حدود غزة التي أعادت المبادرة ولو جزئياً للجماهير، رغم ما يواجهها من ظروفٍ سياسيّةٍ معقّدةٍ في محيطنا العربيّ، حيث لا تُوفر الأنظمة فرصة المناورة وتحقيق نتائجَ سياسيّةٍ أفضل؛ على رأسها تخفيف أو كسر الحصار المفروض على غزة.

في ضرورة رواية كلّ الحكاية

ختاماً، إنْ كان التاريخ "سجالاً لا ينتهي" كما يقولون، إلا أن هذه الحقيقة لا تلغي قداسة الواجب المُلقى علينا، المتمثّل في قراءة تاريخ شعبنا ومقاومته المُستمرة للمشروع الاستعماريّ في فلسطين منذ أكثر من 100 عامٍ، في سياقٍ متّصلٍ لا يُهمّش أيّاً من فصوله، مُقترِحاً بذلك نظريةً محليّةً تُقارب الحدث بما يتّصف به أساساً، تجنّباً لليّ عنق الواقع وإسقاط نظرياتٍ ونماذج عالميّةٍ عليه، قد تتشابه معه عند نقاطٍ معينةٍ،  لكنها بالتأكيد لا تصيب روحه التي صنعتها التجربة الخاصة به. كما وإنْ كنّا نتفق مع بعض الأفكار التي خرج بها الباحثان، غير أنّ حصر قراءة تاريخ المقاومة الفلسطينية بأشكالها المختلفة في ثنائية العنيفة/ السلميّة يساهم في إسكات صوت الفلسطينيين والنطق بتجربتهم، التي تعدّ  بنت ظروفها وبيئتها وتراثها.

 

المصدر: باب الواد