شبكة قدس الإخبارية

تقريرمحمد شريتح.. فدائي الجبل الأشقر

Untitled-11

رام الله - خاص قدس الإخبارية: قبل عشرة أعوام، كان الشاب محمد إبراهيم شريتح يقود مسيرة لطلاب الثانوية العامة في مدرسة المزرعة الغربية للذكور، تنديدًا بالحرب على قطاع غزة، ليتوجهوا نحو مستوطنة “تلمون” القريبة من قريتهم، وصلوا إلى خيمة نصبها المستوطنون عليها العلم الإسرائيلي، نزعه محمد وثبت العلم الفلسطيني، في رسالة أن الأرض لنا.

بعد دقائق اقتحم مستوطن المنطقة، أشهر سلاحه وبدأ يطلق النار، طلب محمد إبراهيم من أصدقائه أن يلقوا بأجسادهم أرضا، كان إلى جانبه صديقه المقرب محمد صالح شريتح، المستوطن كان يصوّب سلاحه نحو رأس محمد إبراهيم، رفع جسده ثم أعاده أرضا، وبعد ثوانٍ رفع صديقه محمد صالح جسده قليلا، ليطلق المستوطن الرصاص على رأسه ويرتقي شهيدًا.

عقب استشهاد صديقه، لم يعد محمد إبراهيم مثل سابق عهده، فهو منذ طفولته عرف عنه بأنه شجاع لا يهاب جنود الاحتلال، لكنه أصبح بعد تلك الحادثة أكثر اندفاعا في المواجهات.

“كانت الرصاصة اللي يا خالتي مش لمحمد، أنا كنت في مكانه بس ما بعرف كيف أجت الرصاصة فيه”، يروي محمد إبراهيم لوالدة صديقه كيف استشهد نجلها، حيث لم ينقطع محمد عن زيارتها، فهي التي كانت ترى ابنها الشهيد فيه للشبه بينهما، فكانت تقول له:” ضلك زورني يا خالتي، بشوف محمد فيك”.

قبل أربع سنوات، قرر محمد أن يتزوج من الشابة منار لداودة، وأنجب منها ابنتين: سوار (3 سنوات)، ورحيق (عامين)، كان همه أن يسعدهما بأي طريقة، أما زوجته فأرادها أن تنهي تعليمها سريعا، إذ كان يقول لها:”المهم شهادتك تكون معك، هيك بكون مرتاح”. كانا يحلمان ويخططان لمستقبلهما سويا.

لم تنجح منار في أن توقف زوجها من المشاركة في المواجهات، وكلما حاولت أن تمنعه من أجل بناته، وكذلك والده كان يقول لهما:”ما رح تزيدوا من عمري، والله لو قيدتوني بحبل أو بحديد لأخذه معي وأطلع”.

الفدائي

في الصفوف الأمامية للمواجهات كان محمد، يطلق صرخاته “الله أكبر” ويشجع الشبان ويقود ميدان المعركة، وفي أحيانٍ كثيرة كان يترك عمله-وهو يعمل في قطاع الإنشاء-ويتوجه إلى المواجهات، سواء المندلعة في قريته أو القرى المجاورة لهم، كما كان من المشاركين في المواجهات التي تندلع قرب حاجز “بيت إيل”.

قبل نحو عام، شق مستوطنو المستوطنات المحيطة بالمزرعة الغربية طريقا استيطانيًا يمر عبر أراضيهم، استطاع الأهالي وقفه، ليبدأ المستوطنون بعد ذلك باقتحام جبل “نعلان” في القرية ويؤدوا طقوسا تلمودية، لتندلع مواجهات أسبوعية يوم الجمعة، محمد كان من أوائل المشاركين فيها لم يغيب عن الجبل يوما.

إحدى أيام الجمعة، اقتحم المستوطنون جبل نعلان، وهبّ الشبان ومعهم محمد للدفاع عنه، لكنّ المستوطنين لم يؤدوا طقوسهم على قمة الجبل، توجهوا إلى منطقة منخفضة قليلا، فما كان من محمد إلا أن رفع يديه وصرخ عاليا:”إذا هالمرة المستوطنين صلوا هنا، المرة الجاي بصلوا في بيوتنا”، وأشار بيده ليعلن بدء المواجهات.

في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر تشرين الأول، تناول محمد ومنار قهوتهما، وخلال حديثهما سألها: لو غبت عن البيت، أين ستنامين؟ فأجابته في بيتنا طبعا، فقال لها:”اه يا منار لا تتركي البيت، خليكِ قوية مثل ما بعرفك، اوعي تضعفي، اعتمدي على حالك”، حديثه أثار ريبتها، لكنها لم تكن تدرك في حينها أنه كان يوصيها.

كان محمد ينوي زيارة شقيقته شرين، وقبل أن يخرج من المنزل إلى بيرزيت بشأن عمله، أوصته منار ألا يتأخر، عاد موعد الغداء وكان على عجلة من أمره، هاتف ابن خاله مدحت باقي وطلب منه القدوم.

سريعا توجهت إسراء وقالت لوالدتها إن شقيقها محمد ذهب إلى نعلان، طالبا منها ألا تغضب ساعة وسيعود، لكن والدته ظنت أنه يمازح شقيقته، لأنهم خططوا لزيارة شقيقته.

“نحن نتوجه للجبل لنحميه من الاستيطان، اصطحبت محمد وتوجهنا إلى وسط القرية لنأخذ شقيقه محمود، وكان محمد يحثه على القيادة بسرعة لأن المستوطنين اقتحموا الجبل، استمرت المواجهات قرابة ثلاث ساعات”، كما يروي مدحت لـ “شبكة قدس”.

ويسرد مدحت “كان جنود الاحتلال يطلقون الرصاص المطاطي وقنابل الغاز صوبنا، بينما كان محمد يقف على طرف الجبل، في أخر نصف ساعة تقريبا كانت عملية كر وفر، اختفى الجنود برهة وأدركنا أنه كمين، أحد الشبان طلب أن يستطلع أحد، فتطوع محمد وقال:”أنا الضحية اليوم”.

أطل محمد ولم ير شيئا، فخرج الشبان ليلاحقوا عشرات الجنود يتقدمهم ثلاثة منهم، استطاع الشبان أن يصيبوا ضابط المنطقة بحجر في رأسه، ليبدأ بإطلاق الرصاص الحي على المجموعة المقابلة لمحمد فشاهدهم وهم يتساقطون، فما كان منه إلا أن سحب قنبلة غاز من شاب وكان يهم لإلقائها صوب الجنود.

لم يمهله الضابط الذي ارتكب مجزرة قبل ثوان، وأطلق أربعة رصاصات من مسافة لا تزيد عن 30 مترا، مدحت وشاب أخر ألقوا بأجسادهم أرضا، وبينما كان محمد يهم لفعل ذات الشيء، اخترقت رصاصة رأسه وخرجت من مقدمته، صاح شاب باسمه، فالتفت مدحت ليرى محمد مضرجا بدمائه ويتنهد.

لخمسة عشر يوما كان محمد في غيبوبة، كانت فيها زوجته ورغم الأمل الضعيف بنجاته، إلا أنها كانت متأملة بأنه سيتشبث بالحياة من أجلهم، أما والدته فكلما كانت تدخل لزيارته كانت تقرأ له القرآن، تمسح وجهه بقطعة مبللة بالماء، وتحدثه “يما يا محمد الله يشفيك، هاي سوار بتستنى فيك”.

في العاشر من تشرين الثاني الماضي، دخلت والدة محمد لزيارته نجلها، ولمست وجهه وأطرافه وكانت على غير العادة باردة، أدركت أن ساعات محمد معدودة، لم تتمالك نفسها وخرجت، إلا أن نجلها محمود طلب منها أن تعود حتى تنتهي الزيارة وعادت.

عادت والدة محمد إلى المنزل، ألقت بجسدها وغفت قليلا، رأت في منامها زوجة محمد تناديها وتقول:”والله يا عمتي روحت على ثلاثة شيوخ ومابزبط” فسألتها ما العمل، فأجابت:”في شيخ كتب كتابنا شوفي” فرأت ورقة بيضاء، في تلك الأثناء أعلن الأطباء استشهاد محمد.

سوار ودعت والدها وهي تعرف أنه لن يعود وذهب إلى الجنة، لكنها تصدق أحلامها التي تراه فيها وتكذّب الواقع وتقول لأمها في كل مرة:”بابا ما مات والله يا ماما بيجي كل يوم بالليل”، أما رحيق لا تعرف سبب بكاء الجميع من حولها وتقابلهم بابتسامة، وتجيب على والدها الذي يناديها في مقطع فيديو تشاهده بـ “نعم بابا”.

رحل الفدائي “الأشقر” كما كان يُلّقب ليلتحق بصديقه الشهيد، غادر الجبل الذي ارتوى بدمائه وهو الذي جاب ميادين المعارك، يقاتل ويدافع عن أرضه وحقه، نال الشهادة التي تمناها في سبيل الحرية.