شبكة قدس الإخبارية

أين أنيس دولة؟

رشا حرز الله

طلب حسن من زوجته إحضار مغلف من داخل إحدى أدراج الخزانة، كان الزوجان قد أحضراه معهما من العاصمة اللبنانية بيروت عندما كانوا هناك في العام 1982، ثم بدأ يُخرج ما بداخله من أوراق ووثائق وصور، وينثرها على الطاولة قبالته، من بينها أيضا رزمة من الرسائل مكتوبة على ورق بني رقيق وقديم يكاد يهترئ، أرسلها له شقيقه أنيس.

آخر الرسائل تلك، وصلت لحسن دولة وزوجته نهاية العام 1979، كتب أنيس لهما: "كل عام وأنتم بخير، أبدأ رسالتي بهذه الكلمات البسيطة المتواضعة التي جادت بها ذاكرتي، في هذه الظروف الصعبة التي تمر بنا، يتوسطها هذا الطير الوديع الذي ينقل لكم ما يجول في صدري، من آيات الحب والأماني.. إلى اللقاء أعزائي".

وفي منتصف الورقة رسم أنيس، طائرا ملونا كتب تحته "طير الوروار، وأسفله على الجانب الأيسر كتب عنوان إقامته "سجن عسقلان 25/10/1979"، بينما كتب الصليب الأحمر تعليماته أعلى الورقة: "أخبار عائلية فقط، الرجاء الكتابة بخط واضح جدا".

ومن ضمن ما يحتويه المغلف أيضا، صور تظهر بيت عزاء أنيس، والذي أقامه له الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي يظهر في إحداها متوسطا الحضور، ببزته العسكرية، وعلى الجدران خلفه علقت صور نعي لأنيس، الشاب الذي انضم لصفوف الثورة الفلسطينية عام 1966م. قبلها بعامين، كان أنيس دولة ضابطا احتياطيا في معسكرات الجيش الأردني، تدرب على الأسلحة وخوض الاشتباكات، ليبدأ بعدها ورفيقه الشهيد عمر القاسم، بتشكيل خلايا فدائية وتدريبها في مناطق الباقورة، ووادي اليابس، والشونة، ودير علا، والكرامة الأردنية، في وقت كانت فيه الشعوب العربية تعيش تحت تأثير صدمة هزيمة حزيران/ يونيو 1967.

ومن هناك، بعد أشهر من الإعداد، انطلق أنيس المولود في مدينة قلقيلية عام 1944، لتعزيز العمل العسكري في الضفة المحتلة، حيث سيّر والقاسم دوريتين: واحدة شقت طريقها تجاه مدينة القدس المحتلة قادها عمر، والأخرى نجحت بالتسلل نحو مدينة نابلس بقيادة أنيس.

في نابلس، نفذ عدد من أفراد المجموعة عملية، تم خلالها تفجير مقر الحاكم العسكري في المدينة، بينما اشتبك أنيس مع جيش الاحتلال، للتغطية على انسحاب أفراد مجموعته التي عادت إلى الأردن بسلام، ليصاب هو برصاصة في ساقه، جعلته يلجأ إلى داخل أحد أفران الخبز للاختباء فيه، والتحايل على جنود الاحتلال بأنه يعمل خبازا، وبعد مطاردة استمرت ساعات استطاعوا اعتقاله في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر1968م.

قال حسن دولة، وهو يتناول من زوجته كأسا من الشاي الساخن، "إن عائلته كانت موزعة في حينه بين عمّان وبيروت ودمشق، لأن معظمهم كانوا ملتحقين بالثورة الفلسطينية".

قبل أن يحكم على أنيس بالسجن المؤبد 4 مرات، تعرض للتعذيب الشديد، والشبح ما أدى إلى حدوث ضعف في عضلة قلبه، ورغم ذلك خاض مع الأسرى جميع الإضرابات عن الطعام، فيما كانت الرسائل وسيلته الوحيدة للتواصل مع عائلته في الخارج.

"كما ترون، رسائله تحوي القليل من الكلام"، قال حسن وهو يحمل في يمينه كأس الشاي، وفي يساره رسالة أخرى من رسائل أنيس: "كانت تصلنا رسالة واحدة كل ثلاثة أشهر عبر الصليب الأحمر إلى بيروت، وتقوم زوجتي بالرد عليها تطمئنه علينا، وتخبره عن حالنا وحياتنا، وذات مرة أرسلنا له أننا رزقنا بمولود جديد".

في العام 1980، أي بعد اثني عشر عاما من الاعتقال، خاض أنيس إضرابا مفتوحا عن الطعام، استمر 32 يوماً إلى جانب مئات المعتقلين، والذي عرف بإضراب نفحة، حيث ترك أثره على صحة أنيس.

بعد يومين من فك إضرابه، وفي إحدى ساعات "الفورة" - وهو المصطلح الذي يطلقه المعتقلون على المدة الزمنية التي يسمح لهم السجان فيها بالخروج إلى ساحة المعتقل- وقع أنيس مغشيا عليه بينما كان يمارس رياضة المشي. نقله رفاقه إلى عيادة سجن عسقلان، وبعد ساعات عاد السجان ليبلغهم أن أنيس قد مات.

بعد ثلاثة أيام، نقلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نبأ استشهاد أنيس دولة إلى مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمّان، والتي أبلغت بدورها مكتبها في بيروت، ومنه إلى دمشق، ليقام لأنيس بيت عزاء في العواصم الثلاث، لكن بقيت المعلومات الواردة للعائلة عن ظروف استشهاد ابنها ومكان دفنه شحيحة ومتضاربة.

وبينما حسن (66 عاما)، مستمر بتقليب الرسائل والصور، راحت زوجته تروي بعضا من التفاصيل التي نقلها المعتقلون المفرج عنهم لاحقا من أصدقاء أنيس، عن ظروف استشهاده، حتى ذهب بعضهم إلى القول إن ما تسمى إدارة سجون الاحتلال نقلته بعد مرضه إلى إحدى مستشفيات الأمراض العقلية، وقال آخرون إنهم علموا أن سلطات الاحتلال سرقت أعضاءه قبل دفنه.

ليس هذا كل ما لدى العائلة من معلومات، إنما أيضا وثيقتان حصلت عليهما من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الأولى تشير إلى أن أنيس فارق الحياة في معتقل عسقلان يوم 31/8/1980، بينما الأخرى تقول إنه تم إطلاق سراحه في اليوم ذاته، وبذلك لم يعد اسمه مدرجا في سجلات السجن بعد ذلك التاريخ.

ويتساءل حسن: "حسب ورقة الصليب الأحمر، فإن شقيقي قد فارق الحياة داخل المعتقل، فكيف تدعي سلطات الاحتلال أن جثمانه قد اختفى؟، والورقة الأخرى تشير إلى أنه تم إطلاق سراحه، إلى أين تم نقله إذن؟ وهل توفي وبقي داخل المعتقل أم نقلوه إلى مكان آخر؟ لماذا هذا التضارب في تقارير الصليب الأحمر؟ عدا ذلك كله، لماذا أخبرت سلطات الاحتلال رئيس بلدية قلقيلية في ذلك الوقت، نيتها تسليم جثمانه، وعدلت عن القرار لاحقا بعدما قام أهالي المدينة بحفر قبره نيابة عنا، كونه لم يكن أحد منا هنا؟".

بعد عامين على استشهاده، أبلغ الصليب الأحمر العائلة بتشريح جثمان أنيس، ولدى العائلة وثيقة الصليب التي كتب فيها: "نحيطكم علما أننا لم نجد في ملفاتنا رقم هوية أنيس، أو رقم سجنه الذي يمكننا المساعدة في البحث مع مصلحة السجون، الصليب الأحمر مستعد لقبول طلبكم، بالإضافة الى ذلك نحن عثرنا في ملفاتنا الداخلية على الإشارة على تقرير تشريح الجثة الصادر من وزارة الصحة الإسرائيلية، معهد الطبي العدلي بتاريخ 3/5/1982".

وهنا يتساءل حسن أيضا: "لماذا تم تشريح جثمان أنيس بعد مرور عامين على استشهاده كما يقولون؟ وكيف لا يجد الصليب الأحمر في ملفاته أوراقا لأنيس أو رقم سجنه، وهو الذي حصل على شهادة الثانوية العامة في السجن"؟.

تم طرح هذه الأسئلة على مكتب الصليب الأحمر، وطلبنا منهم إيضاحا حول القضية، فكان ردهم: "نحن في الصليب الأحمر لا نستطيع الخوض في تفاصيل الحالة المذكورة أو غيرها، إذ إن عملنا يحتم علينا الخصوصية البحتة".

"على الأرجح أن أنيس دفن في ساحة معتقل عسقلان"، هذه آخر المعلومات الواردة للعائلة قبل عام تقريبا، مصدرها خالد الزبدة وهو أسير معتقل محرر وصديق مقرب لأنيس عاش معه سنوات داخل سجن عسقلان، وينحدر الزبدة من ضاحية شويكة في مدينة طولكرم، تعرف إلى عائلة دولة صدفة، حيث أشار علينا حسن أن بالإمكان الاستعلام منه والاستعانة بإفادته.

توجهنا إليه، بعد أن حددنا موعدا للقاء الزبدة، الذي صار اليوم في السابعة والستين من العمر، بدا جسده هزيلا، ويستعين بعكاز للمشي، استقبلنا في غرفة الضيوف، هناك حيث علّقت على جدرانها صورتان لأنيس، إضافة إلى خارطة فلسطين.

من خلال الحديث، تبين أن الزبدة هو من قام بنقل أنيس لحظة سقوطه على الأرض في ساحة السجن، حيث كانا في القسم ذاته، ويروي ذلك قائلا: "أنيس وقع على الأرض وارتطم رأسه بالإسمنت، حملته بسرعة وصرخت على السجانين، كنا جميعا نصرخ بلا وعي، نقلناه إلى العيادة، وطلب مني الممرض وضعه على الكرسي، فأخبرته أن وضعه خطير، ويتطلب نقله إلى المستشفى. قال لي لا تتدخل، ثم وضع في فمه دواء غرغرة، لكنه بدل أن يدخل في جوفه، صار يخرج بشكل معاكس ويطفو على وجهه، وعندما جاء ضابط المعتقل، أخبرته بما جرى، فقال لي نحن نتكفل به، اتركه وغادر، وعندما رفضت هددني "إن لم تغادر سأتهمك بقتله".

"إن كان أنيس قد استشهد فالسبب في ذلك هو إدارة السجن، أولا بتأخيرها نقله إلى المستشفى، هذا إن كانوا قد نقلوه، أو إما خنقوه بدواء الغرغرة الذي أعطاه له أحد الممرضين وهو فاقد الوعي، شاهدت ذلك بأم عيني"، قال الزبدة.

لماذا قلت إن كانوا قد نقلوه؟ يجيب: "إن القسم العلوي من سجن عسقلان يطل على ساحته الرئيسية، ويكشف كل من يدخل أو يخرج من الباب الرئيسي، وبقينا لأيام نراقب بالتناوب قدوم سيارة إسعاف لتقل أنيس إلى المستشفى، غير أنه لم يحدث ذلك، لم نلمس أي حركة غريبة، وكأن شيئا لم يحدث على غير ما جرت العادة، ففي حدث كهذا كانت إدارة السجن تعلن حالة الاستنفار، كذلك فهم أعلنوا أن جثمانه قد فقد ولا يوجد في مقابر الأرقام، لذا على الأرجح أنهم لم يأخذوه إلى أي مكان ودفنوه في ساحة السجن، ويرفضون الاعتراف بذلك".

منذ تسعة أعوام، بدأ مركز القدس للمساعدة القانونية، وحملة استرداد جثامين الشهداء، العمل القانوني في قضية أنيس دولة، حيث أثارت عائلته تحركا قانونيا بغرض معرفة مصيره، وقام المركز بنقل ملفه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، حيث رد جيش الاحتلال في جلسة المحكمة التي عقدت عام 2010، بأنه لا يملك أية معلومات عن جثمان أنيس، تقول منسقة الحملة سلوى حمّاد.

وعلى أحد الرفوف داخل مكتب حمّاد في مدينة رام الله، يتكدس نحو 249 ملفا لشهداء دفنهم الاحتلال في مقابر الأرقام، حصل المركز على هذا العدد من خلال بلاغات قدمتها عائلات الشهداء، أو من خلال بلاغات قدمتها أحزاب وفصائل كان الشهداء ينتمون إليها، وهم غالبا ممن نفذوا عمليات عسكرية إبان الثورة الفلسطينية، لكن بحسب حماد، فإن هذا لا يمثل العدد الكامل للشهداء المحتجزين.

فقدت الكثير من جثامين الشهداء كما تؤكد حماد، بسبب تذرع الاحتلال أن مهمة دفنهم، كانت موكلة سابقا لشركة أمنية إسرائيلية خاصة، حيث كانت تدفنهم دون توثيق لمعلوماتهم، وحسب ادعاء نيابة الاحتلال، فإن هذه الشركة أعلنت إفلاسها وأغلقت في العام 1993م، وأضاعت كل ما بحوزتها من أوراق!

وأنشأت إسرائيل مقابر سرية عقب احتلالها لفلسطين في العام 1948، لكن ما تم كشفه لا يتعدى أربع مقابر، إحداها تقع على الحدود الفلسطينية اللبنانية وتسمى "جسر بنات يعقوب"، وتضم العدد الأكبر من الشهداء الفلسطينيين والعرب، خاصة أولئك الذين استشهدوا خلال نكسة حزيران في العام 1967.

والثانية مقبرة "وادي الحمام" شمال مدينة طبريا، بالإضافة إلى مقبرتين في غور الأردن، إحداها تسمى "جسر آدم" وهي الآن منطقة عسكرية مغلقة، وهناك يوجد أيضا معسكر لجيش الاحتلال، بالإضافة إلى مقبرة أخرى في غور الأردن تدعى "رفديم" وهي مسيّجة بسياج حديدي، تضم رفات عدد من الشهداء، يتم التعرف عليهم من خلال أرقام مكتوبة على لوحة معدنية، موضوعة كشاهد على القبور، ويستدل على المقبرة من خلال لافتة مكتوب عليها حسب تسمية الاحتلال "مقبرة قتلى العدو".

أنيس دولة واحد من شهداء كثر أخفتهم "إسرائيل"، في إطار العدوان الجماعي الذي تمارسه على عائلاتهم، أو للتغطية على جريمة سرقة أعضائهم، ومن يلتقي حسن شقيق أنيس، يدرك أن السنوات الماضية التي مرت لم تستطع أن تنسيه شقيقه. يتحدث حسن عنه وكأن القصة حدثت لتوها، والسؤال الذي يجعله وعائلته يعيشون في دوامة منذ 37 عاما، أين هو أنيس؟.

وكالة وفا